موقف صريح وسياسة متسقة

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: السبت 13 يناير 2018 - 8:35 م بتوقيت القاهرة

الموقف الصريح والسياسة المتسقة مطلوبان. الموقف الصريح هو بشأن منهج الإدارة الأمريكية الحالية فى التعامل مع القضية الفلسطينية وموقفها العدائى من الشعب الفلسطينى، وأما السياسة المتسقة فهى عن علاقات مصر الخارجية واتفاقها مع المواقف المصرية المعلنة من القضية الفلسطينية.

بعد اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل وقراره بنقل السفارة الأمريكية إليها، خرج علينا الرئيس دونالد ترامب بموقف جديد وهو تهديده بوقف التمويل الأمريكى لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين فى الشرق الأدنى (الأونروا) ما لم يعد ممثلو الشعب الفلسطينى إلى طاولة المفاوضات أى، بعبارة أخرى، ما لم يقبلوا صاغرين قراره بشأن القدس، بالإضافة إلى سياسة الاستيطان الإسرائيلية. رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو سارع بتأييد موقف الرئيس الأمريكى، وكيف لا، وهو الذى ما انفكّ يدعو إلى إنهاء عمليات الأونروا، معتبرا أنها المسئولة عن استمرار الفلسطينيين فى مطالباتهم، وهو تساءل بهذه المناسبة عن مدعاة تمييز اللاجئين الفلسطينيين بوكالة تخصهم وعن السبب فى ألا يخضعوا مثل غيرهم من اللاجئين لمفوضية الأمم المتحدة السامية لشئون اللاجئين. هذا التساؤل الأخير يدعو للعجب، فالمفترض أن يعلم رئيس الوزراء الإسرائيلى أن المفوضية السامية مسئولة عن تنفيذ اتفاقية سنة 1951 بشأن وضع اللاجئين، وأن هذه الاتفاقية قد استبعدت من ولايتها اللاجئين الفلسطينيين بدعوى استفادتهم من أنشطة هيئة أخرى هى «الأونروا».

***

واختفاء «الأونروا» لن يعنى بالضرورة انتقال الولاية على اللاجئين الفلسطينيين إلى المفوضية السامية، ولنا سابقة فى لجنة التوفيق التابعة للأمم المتحدة، وهى اللجنة التى نشأت مع «الأونروا» وكان من وظائفها حماية اللاجئين الفلسطينيين. هذه اللجنة كفّت عن العمل منذ بدايات الخمسينيات من القرن الماضى، وهو ما ترك اللاجئين الفلسطينيين بدون حماية تستند إلى صكّ من صكوك القانون الدولى فى تمييز واضح ضدهم. معظم أساتذة القانون الدولى للاجئين يدعون إلى أن تشمل المفوضية السامية للاجئين بحمايتها وبغيرها من وظائفها اللاجئين الفلسطينيين، ولكن ذلك لا يحدث ويستمر التمييز ضد اللاجئين الفلسطينيين. وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) تمارس وظيفة الحماية بشكل اتفاقى فقط، أما وظائفها الرسمية كما نص عليها قرار إنشائها الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة فى سنة 1949 فهى إنسانية تشمل توفير الملاذ والغذاء والماء، ثم امتدّت، مع الوقت وحسب منطق القرار نفسه، لتشمل التعليم والرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية. أكثر من نصف ميزانية وكالة غوث وتشغيل اللاجئين يذهب لتمويل التعليم فى داخل وخارج المخيمات فى مناطق ولاية الوكالة الخمس فى الأردن، ولبنان، وسوريا، والضفة الغربية، وغزة. بعد إرغامهم على الفرار من ديارهم، رئيس الوزراء الإسرائيلى ينكر على اللاجئين الفلسطينيين حق العودة ثم يريد أن يحرمهم حتى من أنشطة الرعاية الإنسانية. أى سبيل لتحقيق السلام والتعايش فى الشرق الأوسط هذا؟ ثم ها هو رئيس الوزراء الإسرائيلى يرى موقفه وقد شاركه فيه الرئيس الأمريكى الذى ذهب إلى حد الربط بين تمويل «الأونروا» و«مفاوضات عملية السلام»، على الرغم من أنه ليس للوكالة علاقة بهذه «المفاوضات». حقيقة الأمر أن هذا الربطَ ابتزازٌ، ولكنه ابتزاز يقوم على حسابات خاطئة، فسكان المخيمات لن يضغطوا على السلطة الفلسطينية لتقبل بالمستوطنات وبالقدس عاصمة لإسرائيل. الفلسطينيون المستفيدون من «الأونروا» هم أكثر تشددا من السلطة الفلسطينية، بل لعل قيدا أساسيا على السلطة الفلسطينية هو تشدد الفلسطينيين فى المخيمات. أى سلام هذا الذى يمكن أن يرعاه الرئيس الأمريكى الحالى بحساباته الخاطئة؟

***

لم يكن أغلب الرؤساء الأمريكيين السابقين موضوعيين فيما يتعلّق بالنزاع العربى الإسرائيلى ولكن ربما كان الرئيس الحالى أكثرهم بُعدًا عن الموضوعية بسبب جهله بجذور النزاع، وعدم اهتمامه بمعرفتها، ثم للمواقف المسبقة التى اتخذها منه والمتماهية مع سياسة اليمين الإسرائيلى الأكثر تطرفا. انظر إلى تعيينه سفيرا أمريكيا فى اسرائيل لواحد من كبار أنصار الاستيطان فى الضفة الغربية المحتلة والممولين له والرافضين لحل الدولتين، أى لأى سيادة فلسطينية على أى جزء من فلسطين التاريخية وإن صَغُر. وتملّى فى تعيينه لشاب، هو صهره، يفتقر لأى خبرة سياسية أو معرفة بخلفيات المفاوضات الممتدة منذ عشرات السنين ليكون مسئولا عن تحقيق السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، والأدهى من ذلك أنه من أسرة قريبة الصداقة من رئيس الوزراء الإسرائيلى، فضلا عن مصالحها الاقتصادية المتشعبة فى اسرائيل ومع شركات إسرائيلية فى الولايات المتحدة، حتى إن محاميا أمريكيا متخصصا فى أخلاقيات التعامل مع الحكومة الأمريكية صرّح بأنه يعتقد بأنه من المنطقى أن يتساءل الناس عمّا إذا كانت المصالح الاقتصادية للشاب المذكور تؤثر على حكمه على الأمور. هذان المسئولان عن السياسة الأمريكية تجاه النزاع الإسرائيلى الفلسطينى وغيرهما، إضافةً إلى الأفكار التقريبية للرئيس الأمريكى عن النزاع، هى التى تفسّر السياسة الأمريكية العدائية الأخيرة تجاه الشعب الفلسطينى. لا مجال لمجاملة الرئيس ترامب. لا بدّ من اتخاذ موقف صريح رافض لسياسته الفجّة. موقف الرفض الصريح ليس عنتريةً أو ادعاء بطولة وإنما هو موقف يستدعيه التقدير السليم للمستقبل متوسط المدى وطويله، إن لم يكن وقصيره أيضا، فى منطقتنا. السياسة الأمريكية الحالية لا يمكن أن تعد بأى سلام مستدام. استشفاف النتائج فى المستقبل هو صلب السياسة. اتخاذ المواقف المترتبة على هذا الاستشفاف من شأنه أن يستعيد لمصر وضعها فى المنطقة، وهو وضع تفتقر إليه المنطقة فى الوقت الحالى وهى، والشعوب العربية بحاجة إليه. من المهم التشديد على أن هذا الوضع ليس عبئا على مصر بل هو زاد لها، فلكل رائد مسئولية، إن تقاعس عن أدائها خسر ريادته مع ما يصاحبها من نفوذ. وليس رفض السياسة الأمريكية الحالية مخاطرة كبرى أو هو باهظ الثمن. أى متابع، ولو بنصف انتباه لوضع الرئيس ترامب فى المجتمع السياسى الأمريكى ولعلاقاته مع حلفاء الولايات المتحدة التقليديين يدرك بلا عناء الرفض الذى تلقاه مواقفه بل والاستخفاف بها.

***

العلاقات مع حلفاء الولايات المتحدة تأتى بنا إلى مسألة الاتساق فى السياسة. فى تصويت مجلس الأمن على مشروع القرار بشأن القدس الذى تقدمت به مصر، صوتت فرنسا والمملكة المتحدة وغيرهما من الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة برفض سياستها، وهو ما تكرر فى الجمعية العامة للأمم المتحدة. من بين الدول الخمسة والثلاثين التى امتنعت عن التصويت، بعضها بإرادتها وأغلبها بضغوط أمريكية، سبعة أعضاء فى حلف شمال الأطلسى، منها ثلاث ترتبط مصر معها بعلاقات وثيقة على الرغم من مواقفها العنصرية المناهضة لاستقبال اللاجئين السوريين ولكل ما له علاقة بالعرب والمسلمين خصوصا هى المجر وبولندا وجمهورية التشيك. هذه الدول الثلاث وسلوفاكيا تكوِّن معا مجموعة فيسجراد، ولقد حضر رئيس الجمهورية مدعوّا قمة هذه المجموعة التى انعقدت فى شهر يوليو الماضى فى المجر. ألا يصحُّ أن تطالب مصر هذه الدول باحترام المصالح المصرية والوقوف معها فى المحافل الدولية والكفّ عن اتخاذ المواقف العنصرية تجاه منطقتنا وناسنا؟ الشيء نفسه يقال عن مواقف بعض الدول الإفريقية، وهى مواقف تدعو للأسف لعدم تمكن مصر، واحدة من كبريات القارة، من التأثير فيها على الرغم من أنه بين هذه الدول من هو وطيد العلاقة بمصر وزار رئيس الجمهورية بعضها مثل أوغندا وجنوب السودان وغينيا الاستوائية ورواندا التى امتنعت عن التصويت فى الجمعية العامة، وجمهورية الكونجو الديمقراطية، وكينيا، التى تغيبت عن عملية التصويت. وعلى ذكر إفريقيا، يضاف إلى هذه الدول الست، تسع دول إفريقية أخرى إما امتنعت عن التصويت أو تغيبت عنه، بعضها يشاركنا عضوية السوق المشتركة لشرقى وجنوب إفريقيا (كوميسا)، فضلا عن توجو التى صوتت ضد مشروع القرار، أى تأييدا لاعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لإسرائيل. بعبارة أخرى، ست عشرة دولة من أصل 55 دولة أعضاء فى الاتحاد الإفريقى، أى حوالى 30 فى المائة من الأعضاء، لم يصوتوا إلى جانب مشروع القرار العربى الإسلامى. هذا لا يؤخذ على السياسة المصرية وحدها وإنما على سياسات جميع الدول العربية الإفريقية، ولكن ما يهمّنا فى المقام الأول هنا هو ضرورة أن تعمل مصر وبنشاط على أن تضمِّن فى سياستها الإفريقية الموقف من النزاع فى الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية، ولقد سبق لها أن فعلت ذلك فى نهاية الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضى بنجاح مشهود له. سواء تعلق الأمر بمجموعة «فيسجراد» أو بدول قارتنا فإن التحرك المصرى ضرورى وإلا فإن السكوت سيمكن تفسيره على أنه علامة الرضا.

الرئيس ترامب أثار أزمة فى الشرق الأوسط باعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل وبإعلانه عن نقل السفارة الأمريكية إليها. الأزمات هى أيضا فرص لتحقيق مصالح من يحسن اقتناصها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved