أزمة مزدوجة فى الأحزاب السياسية فى إسرائيل: الفراغ الفكرى والسيطرة الشخصية

من الصحافة الإسرائيلية
من الصحافة الإسرائيلية

آخر تحديث: الأحد 13 يناير 2019 - 9:10 م بتوقيت القاهرة

الاضطرابات الأخيرة المتلاحقة التى شهدتها المنظومتان السياسية والحزبية لها علاقة قطعا بأشخاص ــ نفتالى بينت، أيلييت شاكيد، آفى غباى، وبنى غانتس ــ وطبعا بنيامين نتنياهو. الضجة الإعلامية تركز بطبيعتها على النواحى الشخصية، ونتيجة ذلك لم يهتم أحد تقريبا بالخبر عن قرار حزب البيت اليهودى تغيير أسلوب اختيار مرشحيه للكنيست.
قد تبدو هذه المسألة إجرائية، لكنها شديدة الأهمية. ففى حزب البيت اليهودى نجحوا فى استخلاص الدروس من العمل السيئ الذى فعله بينت وشاكيد فى الحزب وقرروا إلغاء الانتخابات التمهيدية والانتقال إلى أسلوب مركب، يختار فيه مركز الحزب المرشحين جنبا إلى جنب مع مؤتمر عام. التفاصيل ليست مهمة بحد ذاتها وربما يطرأ عليها تغييرات: لكن من الواضح أنهم فهموا فى البيت اليهودى أن أسلوب الانتخابات الأولية الذى يمكن تسميته «ديمقراطية مزيفة»، تزعزع أساس وجود الحزب وبنيته التحتية الاجتماعية التى يجب أن تستند إلى عضوية ونشاط فى الحزب. وكما تحتاج الديمقراطية نفسها إلى كوابح وتوازنات، أيضا المنظومة الداخلية ــ الحزبية بحاجة إليها.
الانتقال من أسلوب اللجنة المنظمة إلى أسلوب الانتخابات التمهيدية فى معظم الأحزاب التاريخية فى البلد، ناجم عن الرغبة الصادقة فى نقل الحسم من لجان مغلقة مكونة من سياسيين إلى المجال العام، وبذلك تصبح عملية اختيار المرشحين للكنيست أكثر ديمقراطية. هذه كانت النية، والنتيجة كانت مختلفة تماما.
ما حدث هو زعزعة بنية الأحزاب، وبدلا من أحزاب تستند إلى عضوية مستمرة وناشطة، ونشاطات فى الفروع، وعقد مؤتمرات ونقاشات سياسية وإيديولوجية، نشأت مؤسسة «التسجيل»، التى سمحت لكل من يريد بالانضمام رسميا إلى الحزب قبل فترة قصيرة من الانتخابات والمشاركة فى قرار تحديد المرشحين.
***
ليس من قبيل المصادفة أن حزب العمل الذى كان من أوائل الأحزاب التى تبنت أسلوب الانتخابات التمهيدية لم يعقد منذ سنوات مؤتمرا يناقش قضايا سياسية واقتصادية: كل الاهتمام منصب على الانتخابات التمهيدية. التركيز على المنافسة فى الانتخابات التمهيدية أفرغت المؤتمر من أى مضمون فكرى، وحولت الحزب بصورة حصرية إلى أداة لانتخاب المرشحين للكنيست. ومنذ اللحظة التى ينتخبون فيها يضطر أعضاء الكنيست إلى التركيز فقط على وضعهم، وعلى بلورة بروفايل عام عالى المستوى، لضمان انضمامهم إلى الانتخابات التمهيدية المقبلة. كل واحد منهم هو لاعب منفرد: الانسجام الحزبى والانضباط غير موجودين تقريبا، وكل واحد يتنافس مع الجميع فى حزبه.
رافق ذلك ظاهرة إضافية، كان حزب البيت وحزب العمل من أبرز ضحاياها. سمح أسلوب الانتخابات الأولية لأشخاص لم يكونوا قط أعضاء أو ناشطين فى الحزب بتسجيل أنفسهم قبيل الانتخابات. وبمساعدة حملات علاقات عامة شرسة، جرى انتخابهم ليس فقط فى قائمة المرشحين بل أيضا فى قيادة الحزب نفسه.
هكذا نجح بينت وشاكيد اللذان لم يكونا قط من الناشطين فى المعسكر الدينى ــ القومى للمفدال، فى أن ينتخبا لرئاسة الحزب بمساعدة شعارات مثل «تغيير» و«الجيل الشاب» التى دائما تأسر القلوب. وكجزء من هذه الاستراتيجية التى فى أساسها لا توجد مصالح الحزب كهيئة سياسية بل تطلعاتهم الشخصية، غادرا الحزب فى مناورة تنتمى إلى عالم الصفقات: يسيطرون على شركة اقتصادية، يأخذون منها الموارد وغيرها، وعندما تتوقف عن خدمة المسيطر، يرمونها إلى الجحيم ويمضون قدما.
أمر مشابه جرى فى حزب العمل. عندما قرر غباى الذى لم تكن له جذور سياسية أو فكرية فى الحزب، تسجيل نفسه فجأة فى حزب العمل، ونجح فى أن ينتخب ــ بعد حملة علاقات عامة متعددة الوسائل ــ رئيسا للحزب. سلوكه فى رئاسة الحزب كان يشبه طوال الوقت سلوك مدير وصاحب شركة تجارية. الاستبعاد القبيح لتسيبى ليفنى هو نموذج متطرف لسلوك استقوائى، جاء من عالم الصفقات. إن الزعامة السياسية أيضا، ولو كانت لا تخلو من الطموحات السياسية، تتطلب سلوكا مختلفا.
من هذه الناحية بينت وغباى يشبهان بعضهما بعضا، ومع كل الفوارق يشبهان أيضا ترامب: السيطرة من الخارج على حزب موجود والتصرف كرجل أعمال (فى حالة بينت يتضمن هذا أيضا «شراء» حزب غير ناشط). تطبيق نموذج إدارة الأعمال على حزب مبنى على عضوية ونشاط سياسى هو الخطر الأكبر على البنية الديمقراطية التى تتطلب حوارا، ومفاوضات، وخلق ائتلافات وشراكة داخلية ــ حزبية من المصالح والأفكار. كل ذلك غريب عن عالم الصفقات الاستقوائى الذى لا قيم لديه غير حجم النجاح الاقتصادى الذى منه أتى بينت، وغباى ــ وترامب. هذا هو سبب الجرى وراء استطلاعات يومية تقريبا تحل محل نقاش المواقف والقرارات فى موضوعات سياسية واقتصادية.
***
أعضاء حزب البيت اليهودى تعلموا الدرس ويحاولون الآن ترميم حزبهم. وحتى بالنسبة إلى الذين لا يشاركونهم مواقفهم يجب أن يوافقوا على أنه من المهم للنسيج السياسى الإسرائيلى أن يكون هناك مكان لحزب صهيونى دينى لا يديره أشباه ترامب أو ديماجوجيون شعبيون، ويستطيع أن يتنافس مع القطاع الحريدى المعادى للدولة ومع التطرف الحريدى.
من الضرورى للديمقراطية الإسرائيلية طبعا استمرار وجود حزب مثل حزب العمل الذى يعتبر نفسه كحزب اشتراكى ــ ديمقراطى وليس فقط أداة انتخابية بيد هذه الشخصية أو تلك.
الأزمة التى تمر بها الأحزاب السياسية فى إسرائيل مزدوجة وتهدد الديمقراطية أكثر من أى قانون يشرع فى الكنيست: من جهة هناك تفريغ المضمون الديمقراطى والأيديولوجى للأحزاب بسبب أسلوب انتخابات تمهيدية فارغة وخالية من المضمون، ومن جهة أخرى صعود أحزاب ذات زعامة شخصية تسلطية من نوع حزب يوجد مستقبل، وإسرائيل بيتنا، وحاليا حزب اليمين الجديد. فى الضجة الإعلامية الحالية من الصعب أن يأمل المرء بحدوث التغيير المطلوب، لكن من يريد فعلا تعزيز الديمقراطية والتخلص من الدوامة الحالية، يجب عليه أن يتعلم من نموذج البيت اليهودى وصوغ بنية الحزب من جديد. يجب عدم العودة إلى أسلوب اللجنة المنظمة، بل بلورة بنية مركبة تعددية ومتعددة الطبقات تضم كوابح وتوازنات داخلية. كما يمكن أن نتعلم من تجربة أحزاب فى دول ذات نظام تعددى فى أوروبا وليس فقط من النموذج الأمريكى للانتخابات التمهيدية (التى أعطت الولايات المتحدة والعالم ترامب). مثل هذا الإصلاح سيسمح لأعضاء الأحزاب والمنظمات والفروع التابعة لها بالمشاركة فى بلورة طريقها وسياستها، ويمنع سيطرة عدائية لشخصيات من الخارج تعتبر الأحزاب محطة فقط للوصول إلى الزعامة.

شلومو أفينيرى

محلل سياسى
هاآرتس
مؤسسة الدراسات الفلسطينية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved