مسرحية

أهداف سويف
أهداف سويف

آخر تحديث: الأربعاء 13 فبراير 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

كان من معجزات ثورة ٢٥ يناير أن تحولت شوارع وميادين مصر بقدرة قادر إلى «محميات» اجتماعية، تنعم فيها فئات الشعب المختلفة بالأمان، وبالمساواة فى حب الوطن، وبالصحبة فى الأمل وفى العمل. اختفى التحرش فاطمأنت النساء والشابات، واختفى القهر فاطمأن الغلابة، وسكن الثوار الشارع فتعرفوا إلى أطفاله، ووعوا بعالمهم، وقامت بينهم المودة، وبدأ الجميع التفكير والتخطيط والحلم بالمستقبل. وتزامن كل هذا مع غياب وهزيمة أجهزة الأمن الرسمية للدولة، بل وغياب الدولة.

 

وفى وجه كل الأسئلة التى كانت تأتينا من خارج البلاد، وبالذات من مؤسسات الثقافة والإعلام والتعليم الغربى، تستفسر عن دور المرأة ووضع المرأة وآمال المرأة فى الثورة، كنا نعيد ونكرر أن المرأة تشارك فى الثورة المصرية كمواطنة مصرية، وأن الثورة لا تفرق بين المرأة والرجل، وأننا جميعا نأمل فى بناء مجتمع لا يميز بين الناس على أساس الدين أو اللون أو الجنس أو أى أساس كان، ونقول انظروا، انظروا إلى المشهد فى الميدان: هذه هى مصر.

 

ومع محاولات الدولة للعودة، ومع الحرب على الثورة، بدأ استقصاد الإناث. والأمثلة نعرفها جميعا من «كشوفات العذرية»، إلى السحل والضرب ــ مع استعمال التهديدات ذات الطابع الجنسى ــ إلى أن وصلنا الآن ــ مع الرئاسة المنتخبة والحكومة ذات الشرعية ــ للتحرش الجماعى الممنهج. وقد أكدت سيدة تعرضت لهذا التحرش المستحدث أنها شعرت أنه ليس فقط ممنهجا ومخططا بل قد تم إجراء «بروفات» عليه؛ وذلك لتمرس المتحرشين الواضح على التحرك والتنسيق الجماعى، ولمهاراتهم فى إطلاق حديث مطَمْئن مستمر، يتعارض تماما مع ما يقومون به من عدوان، ويثير اللبس عند الناس فلا يعرفون من المعتدى ومن الذى يحاول إنقاذ السيدة أو الفتاة. فيبدو، ويا للعجب، أن عودة الدولة، تعنى عودة وتضاعف العنف؛ وهو عنف ضد الجميع ــ وإن اختلفت أشكاله.

 

واستعمال العنف الجنسى من التكتيكات المعروفة عند النظم القمعية (وهم يستعملونه ضد الرجال والشباب والأطفال أيضا، لكن هذا موضوع لمقال آخر)، والمقصود به كسر شىء ما فى نفس المرأة (وأتصور أنه يدمر أيضا شيئا فى نفس المعتدِى)، فتنكسر وتنزوى. والمقصود به أيضا بث الفرقة بين النساء والرجال، ونشر الفتنة؛ حيث تعلو الأصوات ــ وربما يكون بعضها حسن النية ــ التى تطالب المرأة بأن تنأى بنفسها عن مواقف التحرش المحتمل، فتجد الشابة نفسها تجاهد على أكثر من جبهة: جبهة مواجهة التحرش، وجبهة تبرير نزولها للعمل الثورى وإصرارها عليه، وجبهة العمل الثورى نفسه.

 

ومن المدهش ومن آيات الثورة أن نرى هذه الظاهرة تساهم فى عملية الفرز التى أصبحت من أهم سمات ما يدور فى مصر فى هذه الفترة من تاريخنا، فنجد الشابات والسيدات لا ينزوين ولا يتراجعن، ويتعاملن مع ظاهرة التحرش بوضوح وقوة ــ وأهاليهم وأزواجهم إلى جانبهم ــ على أنها أداة عنف سياسى، يلتصق عارها بالقائمين بها والمخططين لها وليس بالمستهدفين منها.

 

أما ردة الفعل التى يرجوها المخططون وينتظرونها فتأتى من ــ من فين يا شطار؟ من الدولة.

 

فها هى لجنة حقوق الإنسان بمجلس الشورى تلعب تماما الدور الذى يطلبه مخرج سيناريو التحرش وكأنه قد أخرج جلستها هى أيضا. تكاد لا تصدق عينيك وأنت تقرأ فجاجة ردود الفعل وسقمها وعقمها. يقول سيادة اللواء عادل عفيفى إنه: فى بعض الأحيان تساهم الفتاة فى اغتصابها (اغتصاب نفسها يعنى) بنسبة ١٠٠٪ لأنها وضعت نفسها فى هذه الظروف ــ أى ظروف الفعل السياسى العام. ولا أدرى إن كان سيادته يعلم أن «لوم الضحية» ظاهرة مرضية معروفة كُتِبَت فيها مئات الكتب والمقالات، وأن الوقوع فى فخها يعفى الشخص من أى مصداقية. الغريب أن الدنيا قامت وقعدت حين سحلت قواتنا المسلحة «ست البنات»، وفُتنا وقتها فى عمليات تفكيك ونقد مقُولة «إيه اللى وداها هناك؟» بحيث بجد حقيقى لم أكن أتصور إن أى شخص ممكن يرجع يسأل السؤال ده تانى ــ اللهم إلا إذا كان مش عايش معانا أو مش سامع الناس، الشباب، الشعب بيتكلم إزاى. الأدهى والأمر أن سيادة اللواء مش صوت أو رأى وحيد فى هذه اللجنة؛ فالنائب صلاح عبد السلام يوافقه فيقول إن الفتاة تتحمل الجرم طالما تتظاهر فى أماكن مليئة بالبلطجية (وده طبعا يفتح موضوع شائك آخر نلف ونتحاور فيه منذ سنتين: من هو البلطجي؟)، وتؤَمِّن النائبة مرفت عبيد، أمين سر اللجنة، على هذا الكلام فتُحَمِّل المسؤولية أيضا للفتاة، التى يجب أن تعمل عقلها قبل النزول لأى مكان للتظاهر، حيث إن أغلب الموجودين بالمظاهرات بلطجية. أما رضا صالح الحفناوى، عضو المجلس عن حزب الحرية والعدالة، فقد طالب المرأة بألا تقف وسط الرجال فى المظاهرات.

 

واختلفت الآراء حول دور الدولة فى حماية تلك المرأة المتظاهرة فاستكتر اللواء عادل عفيفى أن يُطلب هذا من الشرطة بينما «ضابط الشرطة مش قادر يحمى نفسه»، واستنكر عضو الحرية والعدالة أن يطلب من الداخلية حماية سيدة تقف وسط الرجال. وانتقد النائب عز الدين الكومى الداعين إلى التظاهر وهم لا يستطيعون حماية المتظاهرات، واقترح اللواء عادل عفيفى القبض على جميع أطفال الشوارع ومعاقبتهم حتى لو تعارض هذا مع المعاهدات الدولية، وأضاف النائب نبيل عزمى إلى هذا مقترح بالقبض أيضا على أولياء أمورهم.

 

يعنى لجنة حقوق الإنسان بمجلس الشورى لم تساند حق المرأة فى الحركة وفى التواجد فى الأماكن العامة والمشاركة فى العمل السياسى، وتعاملت لجنة حقوق الإنسان مع التحرش كظاهرة طبيعية على المرأة أن تحاول تفاديها، واعترفت اللجنة بعدم جدوى جهاز الأمن فى حماية المواطن، ووصفت جموع من الشعب بالبلطجية، واقترحت القبض الجماعى على الأطفال، وخرق القانون الدولى والمعاهدات الدولية، وافترضت أن أطفال الشوارع لهم أولياء أمور فاعلين ممكن يروحوا يجيبوهم واقترحت القبض عليهم هم أيضا ــ يعنى عقاب جماعى، ووازرة وزر أخرى، وعدم مساواة وكل اللى قلوبنا تحبه.

 

يعنى إذا كان سيناريو التحرش سيناريو عنف ورعب، فسيناريو لجنة حقوق الإنسان هو الفاصل الكوميدى، يبرز أكثر ما يبرز انفصال هذه اللجنة عن الواقع المعاصر وعن التفكير المنطقى وعن الوعى بدورها، ويثبت عجز هذا النظام عن خلق مؤسسات جادة تقوم بأبسط الوظائف المطلوبة منها.

 

مرة جديدة تثبت هذه الدولة انها ماتلزمناش، وألف تحية للمجموعات التى نظمت نفسها من شباب وشابات للوقوف ضد التحرش، وللعمل المنظم، والإنسانى، والشجاع، والمتحضر الذى يقومون به بدلا منها. هى دى الثورة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved