حكم الإخوان يغتال الثورة ولا يبنى مصر

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 13 مارس 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

تتهاوى الآمال العراض التى أطلقتها ثورة الشعب المصرى العظيمة فى 25 يناير 2011 والإنجاز التاريخى «لشباب الميدان» الذين قدموا نموذجا فذا للجيل الجديد من الفتية الذين آمنوا ببلادهم وهبوا لإسقاط نظامها بشيخوخته وعجزه وضعفه أمام العدو واستقوائه على أهل مصر إلى حد تجويعهم ودفعهم إلى الهجرة، بكفاءاتهم، وبيع قدراتهم لمن يقدم لهم أسباب الحياة.

 

وها إن القلق على مصر والخوف على الثورة ــ الأمل والغضب والنقمة على السلطة الإخوانية التى أوصلتها المصادفات وارتباك الميدان وافتقاده القيادة الموحدة، يسود مصر جميعا، ويتخطاها إلى الشعوب العربية التى رأت فى ثورة مصر مدخلا للعودة إلى التاريخ، بعدما أخرجتها أنظمة العنف والعجز منه وكادت تخرج البلاد من الجغرافيا، موحدة على الأقل(نموذج السودان، العراق، سوريا، ليبيا..).

 

بل إن كلمات وتعابير مثل «الحرب الأهلية» و«الانفجار الواسع»و «الفتنة» باتت رائجة ومتداولة مترافقة مع أمثلة حسية عن تهاوى «الدولة» و«فقدان السيطرة» واللجوء إلى الجيش لحفظ الأمن فى أكثر من منطقة وجهة فى أرض المحروسة.. وبقدر ما يقلق هذا الواقع المر المصريين فإنه يحبط الآمال بالتغيير نحو الأفضل فى البلاد العربية جميعا، استنادا إلى أحقية مصر فى دور القائد وإلى نصاعة الشعارات التى رفعت والشجاعة المميزة التى طبعت تصرفات شباب الميدان فقدروا أن اللحظة التاريخية التى انتظروها طويلا لكى تعود القاهرة عاصمة الغد العربى وقاطرة التقدم وقيادة التغيير نحو الأفضل فى أربع رياح الأرض العربية، قد دقت ساعتها.

 

ولم يعد كافيا أن يقال: إن تجربة الإخوان المسلمين فى الحكم قد فشلت!. فهذا ليس حلا للازمة الخانقة التى تشل قدرات مصر وتزرع الفتنة فى صفوف شعبها الذى ظل موحدا طيلة تاريخه، والذى عاد فأكد صلابة هذه الوحدة فى «الميدان».

 

 صار السؤال المقلق: كيف ومتى وبمن يمكن إخراج مصر من هذا المأزق المصيرى الذى يكاد يعيد الاعتبار إلى عصر الطغيان الذى يتبدى مع ما هو واقع الآن كاريكاتوريا، خصوصا وأنه يهدد فى هذه اللحظة دولتها جميعا ووحدة شعبها، فضلا عن انه يلغى دورها القيادى، بل الريادى فى أمتها ومنطقتها والعالم الإسلامى ومعسكر عدم الانحياز.

 

اللافت أن العالم كله، والعرب بالدرجة الأولى، وأهل مصر أساسا يُشغلهم القلق على أوضاع مصر فى يومها وفى غدها أكثر مما تظهر تصرفات الحكم بقيادته الإخوانية فى مواجهة موجة الاضطراب الواسع التى تكاد تذهب بهيبة الدولة وتضعف دور مؤسساتها العريقة، وتنذر بمخاطر غير محدودة على الغد.

 

•••

 

ويبدو الفارق جليا بين التجربة الإخوانية فى السلطة فى تونس وتجربة الإخوان فى مصر.. إذ كان إخوان تونس «أذكى» وأكثر حكمة، (حتى الآن على الأقل) من رفاقهم المصريين وحاولوا امتصاص حالة الغضب الواسعة التى كانت جاهزة للتفجر، اعتراضا على هيمنة الإخوان على مراكز القرار وعجزهم عن حل أزمات البلاد الاقتصادية والاجتماعية.. فلما وقعت جريمة اغتيال المناضل شكرى بلعيد سارعوا إلى تعديل فى واجهة حكمهم قد لا تكون العلاج لمأزق جنوحهم إلى الهيمنة ولكنها قد تعطى شعبهم فرصة للتنفس والتسليم مؤقتا بهذا الحكم الائتلافى بالقيادة الإخوانية الذى لم ينجح فى حل الأزمات الاجتماعية ــ الاقتصادية التى تختنق فى ظلها تونس.. ولا تنفع فى التخفيف منها تعهدات القائد الإخوانى راشد الغنوشى الذى فضحته بسالة «رفيقه» المناضل الذى لبط كرسى رئاسة الحكومة واستقال حمادى الجبالى.

 

إن أبسط استنتاج يمكن الخلوص إليه أن الأخوان المسلمين فى مصر يكررون أخطاء تنظيمات الأحزاب السياسية ذات التوجه القومى فى المشرق العربى، البعث وحركة القوميين العرب واليساريين عموما (حتى لا ننسى تجربة اليمن الجنوبي) فى محاولة الهيمنة المطلقة على السلطة واستبعاد الآخرين عن طريق الطعن بوطنيتهم أو بكفاءتهم وقدرتهم على خدمة بلادهم.

 

بل إن الإخوان الذين يصلون الآن، متأخرين جدا عن زمان بلادهم والعالم، لا ينتبهون إلى أن الشعوب قد عاشت تجارب مع كل القوى التى استولت على السلطة ــ بصورة أو بأخرى ــ ثم احتكرت الوطنية والقومية والتقدمية، والدين جميعا فى بعض الأحيان (حتى لا ننسى صدام حسين وفرضه كتابة «الله أكبر» على علم العراق مع انطلاق حربه على إيران..)... قبل أن تقرر أنها المرجعية العليا فى التعليم وفى التطبيب، فى الاقتصاد وفى التصميم، فى الشئون الخارجية والعلاقات العربية، فى التحالفات والمخاصمات، بل وفى العادات الشعبية وأصول الحديث والضيافة، وصولا إلى رسم إطار للآداب، شعرا ونثرا، رواية وقصة (ولقد كتب صدام، أيضا، روايات وفرض تدريسها باعتبارها فتحا فى تاريخ الأدب العربى وفن السيرة.. وكذلك فعل القذافي!).

 

 لعله الشبق إلى السلطة بعد طول حرمان منها، برغم ادعاء الإخوان الدائم بأنهم الأولىَ بها لأنهم الأعلم والأثقف والأكفأ فضلا عن أنهم الأطهر والأنظف بشهادة «السجادة» و«الزبيبة» وأداء الصلاة فى المكتب، وسط استعجال أصحاب الحاجات.

 

لعله الإحساس بضيق الوقت والرغبة المتلهفة إلى اقتناص الفرصة: تهيمن الآن أو تخسر فرصتك إلى الأبد!.

 

 أو لعلها بعض الإيحاءات والإشارات المشجعة التى صدرت وتصدر عن الجهات النافذة دوليا: لقد هبت رياحكم، بعدما أثبتم براءتكم من اعتماد سياسة الإرهاب ضدنا، فاغتنموها، وإلا ضاعت فرصتكم!.

 

•••

 

لقد تبدت صورة الإخوان الذين اختطفوا السلطة فى مصر بمصادفة قدرية، وأساسا بسبب كونهم التنظيم الوحيد الذى تتسع قاعدته الشعبية باتساع البلاد بعاصمتها ومدنها وجهاتها جميعا وصولا إلى الصعيد وشبه جزيرة سيناء والصحراء الغربية وكأنهم يتمتعون ــ منفردين ــ بالأهلية والقدرة على حكم مصر.

 

ولقد تقدموا إلى مركز القرار وهم ممتلئون بأنفسهم: بينهم أصحاب كفاءات واختصاصات فى مختلف المجالات. هم المهندسون والأطباء، الخبراء فى مجال المال والأعمال والربح الحلال عبر تثمير المدخرات، ثم أنهم المدرسون المميزون، وهم العارفون بالدنيا وقد جالوا، كدارسين أو كمنفيين أو كمبتعثين، دول الغرب والشرق جميعا. هم العارفون بالدنيا، والذين اكتسبوا ثقة أصحاب القرار فى مراكز القرار وأثبتوا أهليتهم لمواجهة الخطر النووى الإيرانى ومعه «التشييع» الأشد فتكا وتدميرا.. وهنا تجلت أخطر كفاءاتهم: ليس مهما ما سوف ينجزه حكمهم فى خدمة شعبهم، بل المهم صد الخطر الإيرانى الزاحف على بلاد العرب والمسلمين، والذى يهدد المصالح الغربية وأعظمها إسرائيل.

 

أى أن الصورة التى قدموها عن أنفسهم تتلخص فى كل ما يطلبه الغرب الامريكى: أنهم إسلاميون ولكنهم ليسوا من «القاعدة» وليسوا فيها، بل أنهم «عدوها الأول»، فهم شرقيو الدين غربى الهوى السياسى.. كذلك فهم ليسوا متطرفين وليسوا معادين للغرب فى أى حال، وبالتالى فعلاقتهم مع الكيان الذى ألغى فلسطين مبررة انطلاقا من أن «أهله» الإسرائيليين هم أهل الدين.

 

كان المهم تقديم شهادة حسن سلوك إلى الخارج والحصول على التزكية المطلوبة، أما الداخل فغير مهم. شهادة إسرائيل هى الأهم.

 

            ثم، ولأنهم إسلاميون وغربيو الهوى، فقد افترضوا أنهم يستطيعون الحصول على تزكية من أهل النفط والغاز فى الجزيرة والخليج.. ولكنهم وجدوا أنفسهم مضطرين ــ مرة أخرى ــ إلى تحديد هويتهم الإسلامية أكثر فأكثر، فالإسلام الإيرانى مرفوض، والإسلام المستنير مرفوض، والإسلام السلفى إلى حدود القاعدة مرفوض، والإسلام المعادى للغرب وإسرائيل مرفوض، والإسلام العربى بما هو دعوة إلى الجهاد من أجل التحرر والتحرير مرفوض.

 

•••

 

إذن، ليس من حل إلا فى إشراك قوى الثورة فى السلطة، والتنازل عن بعض المواقع الحاكمة، وإقامة حكم على قاعدة جبهة وطنية تتمثل فيها القوى الحية فى المجتمع، وهذا بالضبط مقتل السلطة الإخوانية.

 

 يكفى والحالة هذه تقريب بعض التنظيمات ذات الوجود الرمزى، إذ لا قاعدة لها ولا برنامج، ورأسمالها أسماء بعض وجاهات المال والسياسة ممن كانوا مع نظام مبارك ولا مانع من أن يزين بهم نظام الإخوان شبابيك سلطته.

 

.. وهذه أقصر الطرق لسقوط حكم الإخوان.

 

 لكن الكارثة هنا أن هذا السقوط قد يكلف تدمير مصر.

 

 وها هى المقدمات تنذر بالنتيجة المحزنة: الثورة المجيدة تتوارى خلف سلطان لم يعرف كيف يسوس الحكم، فضلا عن أن ذلك ليس من حقه، فباشر خلعه ولكن بكلفة باهظة جدا.

 

 

 

رئيس تحرير جريدة «السفير» اللبنانية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved