تعاليم حورية

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الإثنين 13 مايو 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

لخصت فى حياتها أدوار المرأة الفلسطينية فى إحياء الذاكرة.. ذاكرة الاقتلاع من الأرض والعذاب اليومى فى مخيمات اللاجئين وحلم العودة إلى البيوت المهجورة.

 

كانت تحفظ التراث الشعبى وتنشد أزجاله وتهاليله ومنحت القضية الفلسطينية شاعرها الأكبر «محمود درويش».

 

عاشت وماتت فى الظل المعذب، صورتها الملائكية فى قصائد «درويش» ألهمت أجيالا تتالت دون أن يدرك أحد بما يكفى عمق تأثيرها فى تجربته الشعرية التى ساعدت فى صياغة وجدان عربى حاول أن ينفى ثقافة الهزيمة عن الروح المثقلة بالجراح بعد أن توالت النكبات والنكسات على أكثر القضايا الإنسانية نبلا وعدالة فى التاريخ الحديث.

 

كان «درويش» مأخوذا فى تجربته الإنسانية بـ«الأم الشاهدة» ــ «لا تعتذر إلا لأمك».. ومسكونا فى تجربته الشعرية بـ«الأم الملهمة» فالمنفى أنشأ لغتين بينهما، الأولى دارجة «ليفهمها الحمام ويحفظ الذكرى» والثانية فصحى «كى أفسر للظلال ظلالها!»، بدا منحازا لما كانت ترويه من أزجال وتهاليل على ما أبدعه هو نفسه من قصائد وضعته فى مصاف أهم شعراء العربية فى عصورها الحديثة، ساعدته على بناء ذائقته الشعرية، وتركته على ما قال للرياح.. لتجربة عريضة فى الشعر كان فيها هو صوت فلسطين المسموع فى محيطها وعالمها، نضجت تجربته الشعرية ووضعته فى مكانة رفيعة فى الأدب العالمى.

 

لم يكن الطفل الصغير ينام قبل أن تأخذه أمه فى أحضانها الدافئة وهى تنشد من الذاكرة أو تبدع على السجية أزجالها على ما روت بنفسها.

 

صورتها تسرى فى قصائده، خبزها وقهوتها ولمستها وحزنها، كانت تحفظه عن ظهر قلب:

 

«ويكفى أن أنام مبكرا لترى

 

منامى واضحا، فتطيل ليلتها لتحرسه»

 

للشاعر قضية وملهمة، الأولى صاغت تجربة حياته.. والثانية صاغت بنية الذاكرة:

 

«كن من أنت حيث تكون».

 

كانت تردد ما تحفظ أو تبدع كأنها تتنفس، تفكر بلغة الشعر وصورها، تجيب سائليها بأبيات تتلى، تفرح وتحزن شعرا، وفى أزجالها فلسفة حياة كامنة وذكريات تأبى على النسيان.. لقنته أوجاع النكبة، عاينها بنفسه فى السابعة من عمره دون أن يدرك تماما ما يجرى حوله، لكن روايتها صاغت حوادثها وحفرت جراحها.. أحيت فيه الذاكرة، وهو أحياها بقصائده لتظل القضية الفلسطينية تؤرق الضمير رغم كل ما يجرى من تراجعات مخزية بعد خمسة وستين عاما على النكبة.

 

فى روايته الشعرية لتجربة أسرته فى النكبة ظلال ما استقر من روايتها فى وجدانه عن رحلة النزوح من قريته «البروة» بالجليل إلى مخيم لاجئين فى لبنان قبل أن تتسلل الأسرة بعد نحو عام عائدة إلى الجليل حيث عاشت فى قرية أخرى بالقرب من بيتهم القديم الذى لم يعودوا إليه أبدا.

 

صاغ «درويش» قصة ما جرى لأسرته فى ملحمة إنسانية مؤثرة وعميقة، شاعرية وملهمة فى ديوانه: «لماذا تركت الحصان وحيدا».. عذابها لخص عذابا أوسع لشعب بأكمله أقتلع من أرضه وشرد كما لم يحدث لشعب آخر فى التاريخ الإنسانى الحديث كله. فى كل بيت فلسطينى تجربة مماثلة، لكن للشعر رسائله إلى عالمه عندما يكون فريدا فى لغته وصوره الإنسانية النافذة إلى كل ضمير:

 

«يقول أب لابنه: لا تخف. لا

 

تخف من أزيز الرصاص! التصق

 

بالتراب لتنجو!..»

 

«ــ ومن يسكن البيت من بعدنا يا أبى؟

 

ــ سيبقى على حاله مثلما كان يا ولدى»

 

لم يكن أحد يشك من الذين عانوا تجربة النزوح الإجبارى تحت إرهاب السلاح ومذابحه الجماعية أنه سوف يعود إلى دياره بعد يوم أو يومين، أسبوع أو أسبوعين، شهر أو شهرين.. أغلقوا الأبواب واحتفظوا بمفاتيحها:

 

«سوف نرجع عما قليل إلى بيتنا..

 

عندما تفرغ الشاحنات حمولتها الزائدة!»

 

كان لدى الطفل الصغير سؤال يؤرقه يكرره على مسامع والده:

 

«لماذا تركت الحصان وحيدا؟

 

لكى يؤنس البيت، يا ولدى،

 

فالبيوت تموت إذا غاب سكانها..»

 

راهن الفلسطينيون فى الأيام الأولى للنكبة على عودة سريعة لديارهم، فالجيوش العربية سوف تحسم الحرب سريعا، لكن ما جرى خالف الرهانات، وكانت النكبة بأجوائها ونتائجها صدمة هائلة فى عالمها العربى، الذى بدا فى حالة ثورية، وثأرات النكبة تطارد عروشه، وفيما بعد استخلص «درويش»:

 

«لاتكتب التاريخ شعرا، فالسلاح هو المؤرخ»

 

وفى تجربة السلاح ارتبط «درويش» بمنظمات الكفاح المسلح، لم يحمله لكنه أضفى عليه شرعيته الأخلاقية مستندا فى أعماقه إلى صورة الأم الملهمة التى «تضىء نجوم كنعان الأخيرة».. وارتفع صوته مع جيله من شعراء الأرض المحتلة، مع «سميح القاسم» و«توفيق زياد» وآخرين، ليقولوا للعالم: «نحن هنا» ولنا قضية، نحن شعب اغتصبت أرضه وجرت بحقه جرائم ضد الإنسانية لا مثيل لوحشيتها وأنه لا مساومة على قضيتنا.

 

«نعزى أبا بابنه: «كرم الله وجه الشهيد»

 

وبعد قليل، نهنئه بوليد جديد».

 

تصدرت صورة الفدائى إبداعات شعراء الأرض المحتلة، وفى تجربته اقترب من «ياسر عرفات»، وكان الأقرب إلى قلب «الختيار»، كتب بأسلوبه النثرى الرفيع، الذى يضاهى شعره رفعة وتأثيرا، وثيقة الاستقلال الفلسطينى التى أعلنت فى الجزائر بالثمانينيات وأثارت جدلا وخلافا عميقين قبل أن يقدم عرفات على توقيع اتفاقية «أوسلو» التى ضاهت اتفاقيتى «كامب ديفيد» فى آثارها المدمرة على المصير الفلسطينى كله.. ورغم ارتباطه الإنسانى العميق بـ«عرفات» فإنه لم يخذل شعره ولا قضيته كما يعتقد فيها على ما علمته «حورية»:

 

«لم تقاتل لأنك تخشى الشهادة، لكن عرشك نعشك

 

فاحمل النعش لكى تحفظ العرش، يا ملك الانتظار

 

إن هذا السلام سيتركنا حفنة من غبار..»

 

وهذا ما جرى.

 

ظلت صورة «حورية» ماثلة أمامه حتى لحظات النهاية، كانت عنوان ذاكرته وصوت ضميره وجذره الضارب فى الأرض.. توقع كأنها نبوءة أن يموت قبلها، وتصور أن شالها الأبيض الذى لا يغادر رأسها سوف تلقيه حزنا على قصيدته الأخيرة، وهذا ما حدث فعلا، فقد رحل فى أغسطس (٢٠٠٨)، بعد أن تجاوزت النكبة ستينيتها، وبعده بنحو عام رحلت الأم المكلومة:

 

«وأعشق عمرى لأنى إذ مت،

 

أخجل من دمع أمى».

 

لم تره إلا قليلا بعد أن غادر الأرض المحتلة فى السبعينيات:

 

«لا نلتقى إلا وداعا عند مفترق الحديث»..

 

عندما مات على غير توقع قبل خمس سنوات إثر عملية جراحية فى القلب كانت فى الثالثة والتسعين من عمرها وذكرياتها محفورة على وجهها.. وأخذت ترثيه بمحفوظاتها من التراث الشعبى أو بما تجود بها قريحتها من إبداعات تنشدها على السجية من صميم قلبها على ما سجلت الصحفية الفلسطينية «صابرين دياب» الزجل الحزين بصوت صاحبته فى حوار نادر نشرته «العربى»:

 

«نزل دمعى على خدى وحرقنى..

 

مثل الزيت على النار وحرقنى..

 

أنا أبكى على ابنى يللى فارقنى..

 

فارقنى فى ليل ما ودع فيه حدا»

 

كان صوتها منهكا ومستغرقا فى أحزانه عندما استمعت إليها فى اتصال هاتفى بيننا، تتحدث قليلا عن «الغالى» ورائحة البكاء فى الكلام ثم تشرد فى الذكرى قبل أن تعود لتأخذ العزاء فى نجلها الراحل.

 

بعد خمس وستين سنة من النكبة، وقد رحلت الأمهات الملهمات صانعات الذاكرة، فإن المهمة الآن شاقة حقا، فالقضايا الكبرى تخسر أحقيتها الأخلاقية إن خسرت ذاكرتها، وهناك من يريد للنكبة أن تنسى، ولدروسها أن تضيع، وللخطايا التى لحقتها أن تغفر، أو نلخص القضية الفلسطينية فى بعض الممثلين الهزليين، ونتنكر لـ«تعاليم حورية».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved