وابور الجاز

كمال رمزي
كمال رمزي

آخر تحديث: الجمعة 13 مايو 2016 - 10:30 م بتوقيت القاهرة

لكل جيل لغته، مفرداته، تعبيراته الخاصة، يختزل بها الكثير من الأمور.. يوم استيلاء الغزاة على بغداد فى ٩ أبريل ٢٠٠٣، كنت على موعد مع صديقى الغالى إبراهيم أصلام، الذى ينتظره ثلاثة قصاصين شباب.. الحديث يدور حول الحرب التى لم تعلن نتائجها بعد. الأخبار مشوشة يختلط فيها الأمل بالتشاؤم. جاء أصلان، قال لى أثناء مصافحة الآخرين، بصوت هادئ، مبلل بالأسى خلاص.. صاحبك جاب جاز.

وصلتنى الرسالة. لم يستوعبها الشباب تماما.. أصلان، منذ إلقاء صدام حسين لقصيدة مطولة، فى بداية الحرب، تشكك فى إمكانية النصر، بل فى بقاء الرئيس ونظامه.. بعد الكلام عما جرى، سأل أحدهم عن مغزى الجملة التى قالها أصلان، صاحب العبارات الدقيقة، المكثفة، ذات الصابع المحايد، الواضحة والمحايدة فى آن.. أدركنا ــ هو وأنا ــ تلك المسافة الثقافية التى تفصلنا ــ قليلا ــ عن أجيال تختلف حياتها، فى بعض التفاصيل، عن حياتنا.. أخذنا، بمحبة، نردم الفجوة.

«صاحبك.. جاب جاز»، تعبير استخدمته أمهاتنا، رحمهم الله جميعا، بعدما ينتهى العمر الافتراضى لوابور الجاز، بسنوات وسنوات.. أمهاتنا، لا يعترفن بانتهاء أجل الوابور، إلا بعد استنفاذ كل فرص الإنقاذ، يتعاملن معه، ككائن بشرى، لا يحق لأحد التوقف عن إجراء عمليات جراحية له، تشمل تغيير الكباس، الفونيا، العدة، الطربوش.. ثم استبدال إخصائى الإصلاح بآخر، ربما يكون أسطى أوأكثر منه علما. طبعا، علينا نحن الصبية، حمل الوابور الجثة، من أحد أرجله الثلاثة، والطواف به، من دكان لدكان.. لا يعتقنا من تلك المشاوير، إلا الإعلان الحاسم، المتكرر: الوابور جاب جاز.

الوابور فى بيوتنا، ملك متوج، لابد من التعامل معه باحترام، يجرى تلميعه بقشرة الليمون، قبل ظهور مسحوق ساحر اسمه «الفيم».. الوابور، مكانته رفيعة، بمثابة «الزعيم الضرورة»، لا يمكن الاستغناء عنه، يؤدى عمل البوتاجاز، الفرن الكهربائى، سخان المياه، التكييف الدافئ، ينتقل، محمولا بحرص، من المطبخ إلى الحمام إلى حجرة النوم.

للوابور ثقافته، علومه الظاهرة والمستترة، كلها تعرفها أمهاتنا.. يميزن، بمدى ثقله، بين «البريموس» الأصلى والمزيف.. من معايير الجودة أن تكون شعلته دائرية مستوية، يغلب عليها اللون الأزرق، مع استمرار قوة النار على وتيرة واحدة، لا تزيد ولا تخفت.

أما عن أسراره الثقافية التى لم ندركها إلا عندما كبرنا.. لاحظنا، فى الشطر الأول من صبانا، أن بائع الجاز، ففنطازه فوق عربة يجرها حمار، يضع قبعة عريضة الأطراف فوق رأسه.. لا يسير إلا بعد الساعة الواحدة ظهرا، يتعمد إبقاء العربة فى منتصف الشارع، تحت أشعة الشمس الحارقة.. عادة، تشترى أمهاتنا نصف صفيحة، تعملها من الخارج بقلم كوبيا، يحدد إلى أى مستوى يجب أن يصل الجاز.. سيدة الدار تركن الصفيحة فى الظل. تتلكأ فى إحضار ثمنها من الداخل.. حين تعود، تكتشف ما توقعته: مستوى الجاز هبط عدة سنتيمترات.. بعد المناكفة يحضر البائع كمية من الجاز، يسكبه فى الصفيحة متضررا.

حين كبرنا، عرفنا الأسس العلمية لذلك الموقف المتكرر.. الجاز، من السوائل التى تنكمش بالبرودة وتتمدد بالحرارة. لذا، يذهب البائع لاستلام حصته فى الفجر.. ثم لا يبدأ البيع إلا مع الظهيرة الملتهبة.. أمهاتنا، عرفن هذا القانون، وبالتالى، واجهته بالتصرف سالف الذكر.

عالم وابور الجاز تسلل إلى الكثير من أفلامنا، صوتا وصورة واسما فاتن حمامة، برقتها، تحمم ابنها الصبى على الهسيس الحنون للوابور، فى «يوم مر ويوم حلو» لخيرى بشارة ١٩٨٨.. قبلها، تحمم أمينة رزق حفيدها، المساكش هذه المرة، فى «السقا مات» لصلاح أبوسيف ١٩٧٧، حيث يظهر الوابور، وبخار الماء يتصاعد من وعاء فوقه.. قبلهما، أطلق بلاليكا «عزيز عثمان» اسم «حسن وابور الجاز» على غريمه، نجيب الريحانى، فى «لعبة الست» لولى الدين سامح ١٩٤٦.

وابور الجاز، جزء ثرى من ذاكرتنا الثقافية، بما فيها السياسية، حيث تغدو جملة «صاحبك.. جاب جاز» تلخيصا بارعا للنهايات الفاجعة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved