نهاية المالكى

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأربعاء 13 أغسطس 2014 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

إلى أى حد تؤثر إزاحة «نورى المالكى» بالأجواء التى جرت بها والتوافقات الإقليمية والدولية التى صاحبتها فى تغيير قواعد اللعبة العراقية القاتلة؟

الإزاحة ذاتها حدث له أهميته فى سياقه وتداعياته، فهو أخطر من تولى السلطة منذ احتلال بغداد عام (٢٠٠٣).

صعد إلى رئاسة الحكومة بتوافق أمريكى إيرانى وفق قواعد اعتمدت «المحاصصة المذهبية».

فكرة المحاصصة نفسها من مقومات تصميم سياسى واستراتيجى عمل على تفكيك العراق بعد احتلاله وأضعاف مناعته أمام الحروب الأهلية.

كل شىء كان ممنهجا ومقصودا وكانت نقطة البداية تفكيك الجيش العراقى ومؤسسات الدولة الأمنية.

المعضلة الآن أن كل شىء تحمل مسئوليته لـ«المالكى» دون حساب جدى للذين صمموا اللعبة المهلكة.

صعود «داعش» هز عرشه وحجب فرصه فى ولاية ثالثة، فقد انهار الجيش الذى أشرف على بنائه بدعم أمريكى دون مقاومة تقريبا فى محافظات عراقية كبرى ووصلت قواتها إلى أبواب العاصمة بغداد وكادت أن تقتحم أربيل عاصمة كردستان العراق وتغير معادلات المنطقة كلها، فسقوط بغداد برمزيتها وجغرافيتها تحول استراتيجى كبير له ما بعده وسقوط أربيل حيث التواجد العسكرى الأمريكى وتمركز مشروع الدولة الكردية تحول استراتيجى كبير آخر.

فى الانهيار تعاظمت إخفاقاته بصورة استدعت إطاحته وبدا رجلا مهووسا بالسلطة بغض النظر عن المصير العراقى كله ومصالح الذين صعدوا به للسلطة.

بات عبئا لا يطاق تحمله وتمديد حكمه يعنى بالضبط انهيارا متسارعا خارج الحسابات والتوقعات.

سياساته أفضت إلى أوسع تمرد سياسى وعسكرى فى المحافظات ذات الأغلبية السنية تحت وطأة التهميش الطائفى وما يصحبه من إذلال يومى لا يطاق.

لم تكن «داعش» وحدها فقد تضافرت قوى كثيرة أبرزها «حزب البعث» الذى تبنى «المالكى» استراتيجية اجتثاثه بلا جدوى والضباط العسكريون السابقون الذين جرى استبعادهم وفق خطة تفكيك الجيش العراقى الذى كان أحد أقوى الجيوش فى المنطقة وأكثرها تدريبا وقدرة قتالية.

البيئة الاجتماعية احتضنت التمرد العسكرى وكان الاستنتاج الرئيسى فى دوائر صناعة القرار الدولية والإقليمية ضرورة إطاحة «المالكى» فالحل سياسى قبل أن يكون عسكريا لترميم الموقف ومنع تدهوره بصورة أخطر.

الاستنتاجات اتسعت لضرورات أخرى من بينها تشكيل حكومة توافق وطنى تخفض مستويات الاحتقان الطائفى لكن دون تعديلات جوهرية فى قواعد اللعبة تستبعد من الأساس المحاصصات المذهبية.

إيران بدت أكبر الخاسرين فى الانهيارات العراقية بذات القدر الذى كانت فيه أول الرابحين عند سقوط نظام «صدام حسين».

لم تتردد كثيرا فى إعطاء الضوء الأخضر لتغيير الجياد فى أعلى مراكز السلطة.

«المالكى» انتهى دوره وجاء دور «حيدر العبادى».

رغم اعتراضات «المالكى» وأنصاره وتلويحات استخدام القوة العسكرية لمنع تكليف غيره برئاسة الحكومة فإن الأمر كله انتهى.

«التحالف الوطنى» الشيعى الذى تنتسب إليه قائمة «دولة القانون» التى يترأسها خذله بـ(١٣٠) من أصل (١٧٣) نائبا فوضوا «العبادى» لرئاسة الحكومة فى مذكرة رسمية تسلمها رئيس الجمهورية «فؤاد معصوم» وباقى مكونات البرلمان المذهبية والعرقية ترفض تمديد رئاسته لولاية ثالثة كأنها مسألة حياة أو موت لا مساومة عليها.

المرجعية الشيعية ممثلة فى «آية الله على السيستانى» دعت مبكرا إلى تغييره فى إشارة أولى لنزع الغطاء المذهبى عنه مسنودا من إيران التى لم تتردد تاليا فى دعم إزاحته.

هو رجل من بيت التشدد المذهبى يحمل الآن وحده مسئولية الإخفاق.

وهو رجل تتلخص فيه خطايا حقبة كاملة من التاريخ العراقى يتبرأ منها الجميع الآن.

بالنسبة للقوى الدولية والإقليمية النافذة فى الملف العراقى يستحيل مواجهة «داعش» والحفاظ على المصالح الاستراتيجية الكبرى بدون إزاحته مع ركام حماقاته والذهاب إلى حكومة جديدة تخفض مستويات الاحتقان المذهبى وتعود بالعملية السياسية إلى سابق عهدها دون تعديلات جوهرية عليها.

بالنسبة لـ«المالكى» نفسه فهو يكاد لا يصدق الحقائق من حوله كأى ديكتاتور صغير تعصف به الألعاب الكبرى.

الرجل القادم الجديد على مقعده من ذات الحزب الذى يترأسه، فـ«العبادى» هو المتحدث الرسمى باسم حزب «الدعوة» أكثر الأحزاب الشيعية تشددا مذهبيا وعنفا فقد رفع السلاح مبكرا فى مواجهة نظام «صدام حسين».

كما تمرد هو على رئيس نفس الحزب سلفه «إبراهيم الجعفرى» تمرد «العبادى» عليه.. وفى المرتين كان التمرد بدعم أمريكى إيرانى.

اللافت أن آخر ثلاثة جياد تعاقبت على رئاسة الحكومة العراقية تنتسب لذات الحزب كأنها مسألة مقررة سلفا يصعب الخروج عليها.

اللعبة انتهت رغم اعتراض «المالكى» ورجاله على إسناد رئاسة الحكومة لرجل آخر والتلويح باستخدام القوة لمنع التكليف الرئاسى بنشر قوات أمنية موالية فى بغداد.

التلويح بالقوة عمل انتحارى نهايته الزج به خلف السجون بتهمة الخيانة العظمى وبتهم أخرى موثقة أقلها تعذيب خصومة السياسيين والتنكيل بهم.

الثأرات تلاحقه وحدود حركته ضيقة والنهايات تنبئ عن مصائر تفزعه.

فجأة انهار عالمه وارتطمت توهماته بصلابة الحقائق.

لا هو أكبر من الأسباب التى استدعت حضوره على رأس الحكومة بتفاهمات أمريكية إيرانية ولا تحديها يدخل فى حدود طاقته.

الدول لا تعرف إلا مصالحها وهو عبء عليها وكراهيته شملت فى وقت واحد المحافظات السنية وكردستان العراق وأغلبية حلفائه الشيعة وبدا عنوانا رئيسيا للانهيار رغم أنه ليس العنوان الوحيد.

شخصيته طبعت حكمه ونزعته للتسلط تجاوزت أية حدود تضع قيودا عليها وسياسته ساعدت فى تفكيك ما هو مفكك.

رغم انتسابه لمعارضة مسلحة ناهضت حكم «صدام حسين» اضطرته للهروب إلى المنفى لسنوات طويلة فإنه حاول أن يستنسخه كأنه شخصية كرتونية على شاشة عرض.

احتذى تسلطه فى التنكيل بخصومه ومناهضيه دون مشروعه فى البناء والتنمية الذى كاد يخرج بالعراق كله من نطاق دول العالم الثالث.

حاول أن يعارض التدخل الأمريكى علنا والإيرانى ضمنا فى اختيار رئيس الحكومة متناسيا أنه قد صعد بهذه الطريقة وأن قواعد اللعبة التى جاءت به هى ذاتها التى تطيحه.

تصور أنه يمكن إحكام قبضته على مفاصل الدولة دون أن تكون هناك دولة بأى معنى حديث أو شبه حديث متماسك أو شبه متماسك.

حاول أن يصوغ معادلات القوة على قواعد مذهبية متشددة وبنى المؤسستين العسكرية والأمنية بصورة تكاد تتماهى مع الميليشيات والولاءات التى تحكمها فهو زعيمها وهى أداته فى تصفية الحسابات السياسية وملاحقة خصومه وفرض ما يريد على الأطراف الأخرى بقوة السلاح وطغيان القمع.

لا دولة ارتقى رئاسة حكومتها ولا دولة خلفها وراءه. فى الحالتين أطلال بلد كان كبيرا ومهيبا.

أيا كانت سيناريوهات اللحظة القادمة فصفحته فى الحكم طويت ولا مستقبل أمامه.

المستقبل هو التحدى الضاغط الآن والملفات المعلقة أكبر من طاقة حلحلتها.

المؤسستان العسكرية والأمنية بتكوينهما المذهبى الحالى لا تصلحان لإعادة بناء دولة مهدمة والمؤسسة السياسية نفسها التى أسست على المحاصصة المذهبية خارج العصر ومن أسباب الانهيار.

القضية أكبر من «المالكى» ونهايته.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved