التقسيم والدومينو

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأحد 13 أغسطس 2017 - 9:20 م بتوقيت القاهرة

كألعاب الدومينو، ما إن يسقط حجر حتى تتداعى أحجار أخرى على الرقعة نفسها.
هكذا يكتسب الاستفتاء الكردى المتوقع فى (٢٥) سبتمبر المقبل للانفصال عن العراق رمزيته الافتتاحية للعبة التقسيم، التى تخيم على دول عربية عديدة.
بالتوقيت، الاستفتاء يستبق انتهاء الحرب مع «داعش» لاقتناص جوائز مبكرة، والعراق فى لحظة خلل توازن بين أحواله وأزماته.
هناك عملية سياسية شبه عاجزة لا تسمح بتوافقات وطنية صلبة قادرة على إعادة صياغة الدولة من جديد والحفاظ على وحدتها.
إلى أى حد يمكن للمبادرات، التى تستشعر فداحة الخطر، أن تصحح البنية السياسية حتى تكتسب مناعتها وصلابتها، بينما الاستحقاقات العاجلة تطرق الأبواب وتكاد تكسرها؟
فى مقدمة الاستحقاقات ملف النازحين من ديارهم تحت وطأة الحرب مع «داعش» والجرائم المروعة التى ارتكبت، وهو ملف يستحيل تجاوزه وترتهن به حياة ملايين العراقيين.
ومن بينها ملف إعادة الإعمار من تحت الصفر تقريبا لمدن وبلدات خربت بالكامل، غير أنه يصعب على أحد فى العالم أن يساهم فيه قبل اتضاح الصورة التى سوف يستقر عليها العراق بعد انتهاء الحرب مع التنظيم المتشدد.
أمام تلك الاستحقاقات الضاغطة على الأعصاب فى العراق تبدو الخطوة التالية فى الحرب مع «داعش» فى «تلعفر» ملغمة بصدامات محتملة مع «البشمركة» الكردية.
كل شىء يجرى بقوة التمركزات العسكرية، والاستفتاء المنتظر يضم مناطق خارج إقليم الحكم الذاتى الكردى.
ليست «كركوك» الغنية بالنفط وحدها موضوع التنازع.
الاستفتاء نفسه من طرف واحد وبلا غطاء إقليمى أو دولى.
قد يتأجل لبعض الوقت إذا ما مورست ضغوط قاهرة من الإدارة الأمريكية.
وقد يحدث فى مواقيته دون أن يكون له قوة الاعتراف الدولى.
غير أنه فى جميع الأحوال يؤسس لانفصال كردستان العراق.
ذلك الانفصال قد ينظر إليه كأمر واقع، فلا ولاية لـ«بغداد» على «أربيل» منذ فترة طويلة نسبيا، والمؤسسات الانفصالية أقوى حضورا.
معضلة كردستان العراق أن أى مقومات سياسية تؤسس لدولة مستقرة شبه غائبة، فالعملية السياسية معطلة، واحتمالات الصراع الداخلى ماثلة، والأجواء فى الإقليم سلبية باستثناء إسرائيل.
وقد ينظر للاستفتاء بقرار منفرد على أنه نوع من الهروب إلى الأمام من الأزمات الداخلية، بقدر ما هو سباق مع الوقت قبل حسم الحرب مع «داعش»، خشية أن تفلت الفرصة.
بقواعد ألعاب الدومينو فإن أحجارا أخرى سوف تسقط، واللعبة كلها مشروع اضطرابات تأخذ من الإقليم تطلعه لالتقاط الأنفاس بعد انتهاء هذه الحرب.
من المؤكد أن يتخذ أكراد سوريا المسار نفسه، بعد وقت قد لا يطول.
بقوة السلاح على الأرض هناك إدارة ذاتية للأكراد فى الشمال السورى مدعومة أمريكيا.
هذه حقيقة تؤذن بسيناريوهات انفصالية إذا ما قرر اللاعبون الكبار الدخول فى صفقات أخيرة لتوزيع الغنائم بعد انتهاء الحرب مع «داعش».
بالنسبة لروسيا فإن ما قد تحوزه من مصالح استراتيجية وما تتوافق مع حلفائها عليه يحكمها فى النهاية.
وبالنسبة للولايات المتحدة فإن اضطرابها باد فى النظر إلى «مشروع الدولة الكردية»ــ تؤيده وتدعمه لكنها تتردد فى حسم كلمتها الأخيرة.
عندما بدا أن «داعش» على وشك اقتحام «أربيل»ــ عاصمة كردستان العراق ــ تدخلت بكل قوتها العسكرية والسياسية لمنع سقوطها، وأن تلقى نفس المصير الذى آلت إليه مدن كبرى.
دربت وسلحت «البشمركة» حتى تكون قوة عسكرية قادرة على الوفاء بأى مهام تسند لها.
غير أنها قد ترى ــ باللحظة الحالية ــ أن توقيت الاستفتاء يفضى لنتائج سلبية على مصالحها الاستراتيجية فى أى ترتيبات تالية.
بالتوقيت نفسه مارست الولايات المتحدة لعبة مزدوجة بين تركيا والأكراد، على الساحة السورية.
تركيا أكثر دول الإقليم توجسا من إنشاء دويلة كردية فى الشمال السورى، بالقرب من حدودها، يسيطر عليها سياسيا حزب «العمال الكردستانى»، الذى تتبنى أيديولوجيته فكرة الانفصال عن الجسد التركى.
الأكراد فى تركيا أقلية كبيرة وانفصالهم يعنى بالضبط انهيارا مؤكدا فى بنية الدولة التركية وقدرتها على البقاء.
من هذه الرؤية الوضع الكردى على حدودها مسألة حياة أو موت.
هكذا هددت بالتدخل العسكرى المباشر لمنع أى احتمال من مثل هذا النوع دون أن تأبه تقريبًا بالتطمينات الأمريكية التى تحاول تهدئة مخاوفها.
كان لافتًا ومثيرًا ومحملًا بالرسائل إلى المستقبل المنظور؛ أن السياسة الأمريكية أسندت مهمة تحرير «الرقة»ــ عاصمة ما تسمى دولة الخلافة، تحت إشرافها الكامل ــ إلى قوات «سوريا الديمقراطية»، الموالية لـ«العمال الكردستانى».
بقدر ما فإن الخطر المحتمل من الشمال السورى أهم لتركيا من توقى استفتاء كردستان العراق، فهو يضرب فى صميم وحدتها الداخلية.
مصدر الخطورة فى ذلك الاستفتاء أنه يشجع ويزكى دويلة مشابهة فى سوريا، قد تسعى للوحدة مع كردستان العراق، بما ينذر بمزيد من الأيام الصعبة مع الكرد الأتراك.
إيران لديها مخاوف أخرى من أن يفضى انفصال الكرد عن العراق إلى النيل من أدوارها ومصالحها الحيوية.
بالنظرة نفسها فإنها تناهض سيناريو تقسيم سوريا.
أين العرب من تلك الحسابات والمصالح الدولية والإقليمية المتناقضة؟
الصمت يكاد يكون مطبقًا بلا مواقف يعتد بها فى موازين الصراع على المستقبل.
لعبة التقسيم إذا ما بدأت فلن تتوقف.
الاستفتاء الكردى خيط أول يجر ما بعده.
بغض النظر عما قد يحدث فى الاستفتاء فإن النتائج الأخيرة مؤجلة إلى ما بعد حلحلة العقدة السورية والنظر الأخير فى أفق تسويتها.
يصعب الآن الحديث بجدية عن فرص نجاح لمفاوضات جنيف للتوصل إلى مثل هذه التسوية، التى سوف تحكمها الحقائق على الأرض ومقايضات اللاعبين الكبار.
تجاوز المعارضة المسلحة فى أى مقايضة محتملة مرجح أمريكيا، ومناطق خفض التوتر ربما تصبح مناطق توزيع النفوذ.
بقدر تقاطعات المصالح تأخذ التفاهمات براجماتيتها.
إذا ما قسمت سوريا فإننا أمام عالم عربى جديد، هو الحلقة الأضعف فى الإقليم.
التقسيم المصير المستعجل لليبيا واليمن ودول عربية أخرى قد تأخذ دورها، والقضية الفلسطينية سوف توضع على المذبح الأخير، هذه صورة قاتمة لكنها محتملة.
التقسيم ليس قدرا بقدر ما هو نتاج لتراجع العالم العربى وهزيمته فى الروح قبل السياسة.
من أحجار الدومينو، التى سوف تسقط بالتبعية فى نهاية المطاف، النظام العربى المتداعى.
فى هذا السيناريو سوف ينشأ نظام إقليمى جديد على أطلال التقسيمات.
قبل مائة عام رسمت اتفاقية «سايكس بيكو» خرائط الدول ووزعت مناطق النفوذ بالورقة والقلم.
هذه المرة سوف ترسم الخرائط المحتملة بقوة السلاح على الأرض ومقايضات المصالح الكبرى.
الاستفتاء الكردى بداية لا نهاية لتفاعلات وصدامات وتقسيمات، وربما حروب دموية عرقية وطائفية تهون بجوارها الحرب مع «داعش».
أرجو التنبه قبل فوات الأوان.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved