فى المساحة ما بين الطب والصحة

علاء غنام
علاء غنام

آخر تحديث: الجمعة 13 أكتوبر 2017 - 9:35 م بتوقيت القاهرة

تختلط المفاهيم وتستعمل المصطلحات بكثير من عدم الدقة فى ملف الصحة والعلاج والطب. ففى مصر مثلها مثل كثير من دول العالم النامى تستخدم تكنولوجيا طبية متقدمة مرتفعة الثمن دون كثير من الدواعى.

وتقاس التنمية بمؤشرات سطحية عن عدد الأطباء أو عدد المستشفيات الجديدة المزمع إنشاؤها وخلافه من الرقميات المضللة، فى حين أن الصحة كمفهوم أشمل وأكثر رحابة يتوارى فى الخلفية بكثير من عدم الاهتمام إﻻ حين تنفجر أزمة فى المجتمع ودروبه من نوبات انتشار مرض معدٍ أو وبائى أو منقول من البعوض وخلافه، وغيرها من نواقل إهمال محددات الصحة اﻻجتماعية مثل مياه الشرب النظيفة أو الصرف الصحى أو الغذاء المتوازن النظيف أو المأوى الآمن.

وفى الآونة الأخيرة تصاعدت أخبار متواترة عن تصاعد الإصابة فى مناطق من البحر الأحمر كالقصير والغردقة بانتشار حمى الضنك (الدينج) المنقولة عبر أنواع من البعوض الحامل للميكروب المسبب لارتفاع درجات الحرارة وغيرها من الأعراض المزعجة.

ويعكس ذلك ضعف اﻻهتمام بالصحة العامة والجانب الوقائى منها على وجه الخصوص والرعاية الأساسية التى تراقب مثل هذه الأمراض المنقولة أو الوبائية أو المتوطنة.

فى حين يتصاعد الجدل حول الطب ومشاكله (وهو علم تطبيقى بمساعدة الإنسان أو مساعدة الطبيعة فى عملية العلاج) ولا نتجادل كثيرا حول وضع محددات الصحة اﻻجتماعية التى تعكس الخلل الأكبر فى حياتنا.

***

فالمعروف علميا أن أى مجتمع به 40% من السكان يعتبرون أصحاء (بلا أمراض) و 40% منهم يعتبرون أصحاء مع (عوامل خطر)، أما الباقى فهم فقط من يحتاجون للطب بمفهومه الحديث من خلال علاج الحالات الحادة والطارئة أو علاج الحالات المزمنة كأمراض السكر والضغط وخلافه. وبينما تذهب أغلب نفقات الموازنة العامة بوزارة الصحة وغيرها من الوزارات إلى القطاع العلاجى فإن ما يخصص فعليا للوقاية والرعاية الأساسية يظل محدودا عبر عقود طويلة من تاريخ المنظومة، على الرغم من أن الوزارة تسمى وزارة الصحة وليست وزارة الطب وعندما تأسست فى عام 1936 كانت تسمى وزارة الصحة العمومية، وكما نركز على تعليم عالى طبى مهملين إلى حد ما التعليم الصحى العالى، وكان الأجدر بنا خلق كوادر صحية عامة من أطباء للأسرة مثلنا مثل بلدان العالم النامى الذى ما زال يعانى من عبء مزدوج للأمراض المعدية والأمراض غير المعدية فى حين أن العالم المتقدم لم يعد يعانى إلا من الأمراض غير المعدية.

وفى ظل تحكم احتكارات صناعات الأجهزة والمستلزمات والأدوية الطبية ــ وهى مجال هائل للاستثمار الذى يستفيد من المرض ويروج للعلاج ــ تتوارى ما يسمى بالتكنولوجيا الملائمة (منخفضة التكلفة عالية الفاعلية فى حالاتنا) إلى تصاعد حمى التكنولوجيا المعقدة والمكلفة ويروج لتسويقها بلا مبرر سوى خلق طلب مزيف للخدمات الطبية والدعوة لها.

إن ما يحدث أخيرا أننا نسعى لتأسيس تأمين صحى شامل يعتمد على تعظيم اﻻهتمام بالرعاية الأساسية والوقاية والتوعية الصحية، ولم ندعُ إلى تعظيم التأمين الطبى محدود الأثر قليل التأثير سوى لعلاج لا يتجاوز كونه فنا بمساعدة الطبيعة لقلة من الأغنياء وليس القضاء على المرض من جذوره! ويسعى فيما يسعى إلى تحقيق أرباح متضاعفة من المرض بدلا من السعى إلى القضاء على أسبابه.

وفى الآونة الأخيرة أيضا واجهنا أمراض مثل العدوى بالفيروسات الكبدية وكان برنامجنا القومى يهدف إلى العلاج والوقاية من تلك العدوى الخطيرة التى تؤثر على حياة فئات المجتمع خاصة الشباب والأطفال. وتحملنا تكلفة مالية كبيرة من موازنة الدولة لعلاج قرابة مليون مواطن وما زلنا نأمل فى توجيه أكبر للموارد لمنع المرض من جذوره بإجراءات مكافحة العدوى واﻻهتمام بالصحة ومحدداتها الاجتماعية والبيئية.

***

وقد فاجئنى صحفى أمس بحوار حول أهمية النظافة العامة فى الشوارع، وحول أهمية وجود مراحيض عمومية فى الأماكن المزدحمة، وحول أهمية نظافتها حتى ﻻ تصبح مجالا للعدوى، وضرورة اﻻهتمام بكبار السن وبمرضى السكر والضغط فى علاقتهم بوجود مثل هذه المنشآت العمومية.

وقلت له حقا إن هناك منظمة عالمية تسمى منظمة المراحيض العمومية (WTO) ولها يوم عالمى تحتفل به وتعجبت أننا ما زلنا نفتقد النظر إلى الصحة باعتبارها الأساس والنظر إلى الطب بأنه وسيلة لمساعدة الصحة. وقلت هل نحن بحاجة إلى كليات من الطب أكثر أم أننا بحاجة إلى كليات للصحة العامة تخرج لنا ما نحتاجه من أطباء الأسرة والصحة العامة لمواجهة الكوارث المعدية فى المناطق النائية والعشوائية والتى ما زالت تعتبر أماكن انتشار عبء الأمراض الحقيقى بأنه الهرم المقلوب.

وفى جانب آخر نسمع عن إنجازات حكومية كثيرة ونريد أن نضع أمام الحكومة أداة لقياس مدى فاعلية هذه الإنجازات؛ أداة إحصائية كمية تشمل المؤشرات التى نستطيع من خلالها قياس تقدمنا الحقيقى فى المجال الصحى وليس أوهام التقدم الطبى. مثل ( إتاحة الرعاية الصحية الأساسية والتغطية الصحية التأمينية دون تمييز ونسبة الوفيات للرضع والأطفال والحوامل واستخدام وسائل تنظيم الأسرة ونسب مياه الشرب النظيفة ونسب الصرف الصحى ونسب البطالة) تلك المؤشرات الكمية المعروفة إلى جانب مؤشرات كيفية أخرى تتم بالملاحظة والمعايشة وفق تقارير خبراء محايدين فعليا فى أمور الصحة الأساسية والعامة من واقع خبراتهم الواسعة ومعايشتهم لما يحدث على أرض الواقع لصحة المصريين والحد من الترويج لتسليع الطب واستخدامه كوسيلة للتربح من المرض تلك هى المساحة بين مفهوم شامل للصحة ومفهوم ضيق للطب أثارها لدىّ أزمة حميات القصير الأخيرة وغيرها من المشاكل البيئية والصحية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved