مصران وعالمان فى المواجهة

وائل جمال
وائل جمال

آخر تحديث: الأحد 13 نوفمبر 2011 - 9:05 ص بتوقيت القاهرة

كما فى كل تطور تشهده الساحة السياسية فى مصر منذ يناير الماضى، هاهى قضية الخارج وتمويله تظهر ونحن نستعد لإجراء أول انتخابات برلمانية بعد الثورة. كانت المؤامرة الخارجية عنصرا ثابتا فى خطاب المعادين للثورة منذ اللحظة الأولى ويبدو أنها لا تغادرنا بحسب عناوين صحفية وتصريحات رسمية عديدة على مدى الأيام الماضية تتعلق بتمويل خليجى وغير خليجى لأحزاب إسلامية وأحزاب ليبرالية. بل واجه البعض الحكم القضائى بتمكين المصريين فى الخارج من التصويت فى الانتخابات بفكرة شيطانية تقول بإمكانية استخدام التمويل لشراء أصواتهم لحساب تيارات بعينها.

 

لقد انقسمت علاقة مصر بالخارج فى خطاب حكام مصر خلال 2011، قبل وبعد التنحى، على خطين: الأول هو المؤامرة الخارجية المدفوعة من قوى إقليمية ودولية على مصالح البلاد العليا (بدءا بعناصر إيران وحماس فى التحرير إلى وصم فعل قام به ملايين المصريين بأنه نتاج تحريض وتدريبات الخارج ومرورا بقضية الجاسوس الإسرائيلي). أما الخط الثانى فهو خط الفرقة السياسية المحلية: خط الأموال التى يتلقاها الليبراليون حينا فى مواجهة الإسلاميين والعكس أحيانا أخرى. ويمر هذا الخط بالصحف وقنوات التليفزيون، نازعا مصداقيتها ومبررا لضربها، ونهاية بالأحزاب السياسية. فهل هذه بالفعل هى الخطوط المحددة لعلاقة مصر الثورة بالعالم الخارجى؟

 

 خارجان وداخلان

ما من شك فى أن الثورة المصرية اكتسبت لها أنصارا وأعداء منذ اللحظة الأولى التى فاجأت فيها العالم خالقة  حدا فاصلا واضحا يقسمه تجاه المصريين المنتفضين والنظام الجديد الذى يسعون لبنائه إلى موقفين. على أحد الأطراف كان هناك أصدقاء النظام القدامى أو الذين رأوا فى انهياره خطرا على مصالحهم. ويخلق هذا تقاطعات ومصالح مشتركة تختلف كثيرا عن خطى الخارج اللذين بتم الترويج لهما.

 

ليس هناك أوضح من المثال الإسرائيلى فى ذلك. تقول ورقة بحثية للمركز العربى للأبحاث ودراسة السياسات عن إسرائيل والثورة المصرية إن موقف الدولة الصهيونية كان عنيفا وعدائيا تجاه الثورة منذ اندلاعها لأنها «أطاحت الثورة بنظام كان الحليف الاستراتيجى الأهم لإسرائيل فى الإقليم أعطاها خدمات يقدرها الإجماع الإسرائيلى على أنها لا تقدر بثمن»، كما يقول الباحث محمود محارب. وتضيف الورقة البحثية إلى ذلك المخاوف الإسرائيلية – العلنية – من انتشار هذا الزلزال إلى دول أخرى عربية مما يهدد توازن القوى الذى عمل لصالحها لعقود– بتنسيق لصيق مع مبارك ومدير مخابراته عمر سليمان. فى نفس الجانب من المتاريس، ومع تباين الأسباب تقف الولايات المتحدة، القلقة من إرادة شعبية تجلب لها مالا تشتهى فى السياسة والاقتصاد، ودول الخليج المرتعبة من تأثير الالهام الثورى على شعوبها واستقرار حكمها الذى بات خارج التاريخ.

 

فى مقابل هذا كان هناك خارج آخر: شعوب عربية تخرج للشوارع على خطى الثورة المصرية وفى نفس اتجاهها، المئات والمئات من الناشطين والصحفيين الأجانب الذين ساندوا الثوار المصريين بكتابة أخبارهم  للعالم. مظاهرات غطت عشرات المدن الأمريكية تضامنا مع معتصمى التحرير ومطالبة حكومة أوباما بالتوقف عن دعم الديكتاتور ونظامه، وأخيرا حملات  من نشطاء ومثقفين وأعضاء فى البرلمان البريطانى والأوروبى تطالب بإسقاط ديون مصر التى حصل  عليها نظام المخلوع ليخدم قمعه وفساده، فى وقت تقول فيه حكومة شرف إن المطالبة فيها إساءة لسمعة مصر.

 

بالتوازى مع هذين الخارجين هناك مصران أيضا. هناك مصر التى تقاتل من أجل استكمال مطالب المصريين الثائرين بإلغاء السلطات الاستثنائية وبناء ديمقراطية شعبية حقيقية ونظام اقتصادى حر وعادل مقابل مصر المصالح الموروثة من نظام المخلوع، التى تريد تغييرا شكليا يحفظ مصالحها ومواقعها فى هرم السلطة الشائخة. مصر الأولى حليفة لعالم التحرر والإنسانية والديمقراطية، الذى بات يخوض معركته هو الآخر بوحى من مصر. ومصر الثانية سند ونصير لخارج  آخر يريدنا كما كنا.

 

 فى مصر وبمصر ولمصر

استخدم الاقتصادى ورجل المال الأمريكى من أصل مصرى محمد العريان هذا التعبير فى خطبته نهاية يونيو الماضى بالجامعة الأمريكية فى القاهرة وهو يتحدث عن الاقتصاد المصرى، مقتبسا إياه من الكاتب الأمريكى الشهير توماس فريدمان فى وصف الثورة.

 

والحقيقة أن كل الرعب والتخوين الذى يتم تصديره لنا فيما يخص الخارج وتدخله لا نجد له أثرا فى خطاب المجلس العسكرى وحكومته عندما يتعلق الأمر بالاقتصاد، الذى تنفضح فيه متاريس الداخلين-الخارجين المتواجهين.

 

يطرح الكاتب الأمريكى ستيفن ماهر سؤالا بديهيا فى مقاله عن الاقتصاد السياسى للثورة المصرية فى عدد نوفمبر من مجلة «مونثلى ريفيو» البريطانية: «لماذا سارعت المؤسسات المالية الدولية، التى طالما ساندت ودافعت عن برامج مبارك لتحرير الاقتصاد، بدفع من الولايات المتحدة، لإعلان نيتها تقديم المساعدات والمعونات والقروض لمصر؟ لماذا تظهر هذه المؤسسات القريبة من حكومة أمريكا كل هذا الكرم للثوريين؟».

 

يمكن قراءة الإجابة على هذا السؤال بوضوح من ديباجة  مشروع قرار الكونجرس بإنشاء صندوق مصرى أمريكى وآخر مصرى تونسى قبل أشهر: «على غرار الصناديق التى أنشئت عام 1989 فى أوروبا الشرقية مع شركاء كبولندا والمجر وألبانيا وروسيا ودول أخرى والتى أثبتت فائدتها لاقتصاديات هذه البلاد ولدفع الديمقراطية....فإن خلق مثل هذا الصندوق بالشراكة مع مصر سيساعد على توسيع جهود الإصلاح وتمكين رواد الأعمال المصريين». ويحدد مشروع القرار، أهداف إنشاء الصندوق بالنص: «من أجل الترويج للقطاع الخاص فى مصر خاصة فى المنشآت الصغيرة والمتوسطة ولتشجيع السياسات والممارسات المؤدية لتقوية القطاع الخاص».

 

ما موقف الحكومة المصرية من هذا التدخل الصارخ فى اختيارات المصريين فيما يخص النظام الاقتصادى الذى يحكمهم؟ لم نسمع شيئا على الإطلاق. من هم شركاء القطاع الخاص الذين سيتلقون هذا الدعم؟ لا يدلنا أحد. لماذا؟ يخبرنا نائب رئيس الوزراء غير المنتخب د.حازم الببلاوى (فى ندوة عقدت قبل أسبوعين بوزارة المالية) أن العالم كله حاليا يسير على اقتصاد السوق «فمن المنطقى أن نتعامل مع هذا الأمر ونسايره. إذا العالم يلعب كرة السلة فلا يصح أن ألعب أنا الرجبي»، بحسب قوله، مضيفا أن «اقتصاد السوق ليس نسخة واحدة متكررة، فنيجيريا تطبقه والفساد بها منتشر بدرجة كبيرة، وفى المقابل السويد وأوروبا وأمريكا يطبقونه ولا توجد لديهم المشاكل التى تعانى منها دول أخرى».

 

أما حلفاء ثورتنا فى الخارج فيرون غير ذلك. فمئات الآلاف الذين تظاهروا فى 900 مدينة فى 81 دولة احتجاجا على ديمقراطيات اقتصاد السوق قبل أسابيع، والذين يرفعون شعارات ثائرى التحرير بالعربية ضد وول ستريت وما يمثله، قرروا التحرك بوحى من الثورة المصرية فى مواجهة مشكلة أساسية: هذا النظام لا يعمل لمصلحتهم. هؤلاء يضغطون كما يضغط مئات الآلاف من المضربين والثائرين من عمال مصر وفلاحيها وموظفيها من أجل إعادة النظر فى هذا النظام الاقتصادى، الذى نهب عيشنا فى ظل الديكتاتورية ولم تحمهم هم منه أحزابهم ولا برلماناتهم.

 

 العزلة التى سقطت

على مدى سنوات أغرقنا نظام الاستبداد فى محلية مفروضة فرضا جعلت معارك من نوعية  شوبير-مرتضى تعلو فوق كل القضايا كى لا ننتبه لعالم يتغير لصالحنا: لثورات أمريكا اللاتينية، وعالم الفقراء الذى يفرض نفسه فى ساحات الإنتاج، والقوى التى بزغت فى النظام العالمى بعد أن اتبعت معكوس سياسات حكامنا فى التعليم والصحة. إن مصيرنا ومصير ثورتنا- شئنا أم أبينا – جزء لا يتجزأ من هذه المعركة العالمية وكل انتصار لدينا يخدم حلفاءنا. كل تقدم لقوى التغيير سواء كان ذلك فى سوريا أو ليبيا أو تونس، فى أثينا أو نيويورك أو لاباز، هو خطوة للأمام فى مصر. لقد كسرت ثورتنا هذه العزلة المصنوعة، ولابد أن نخوض معركتنا على هذا الأساس ضد من يرغبون فى إيقافنا. يستوى فى ذلك داخلهم وخارجهم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved