سقوط الإخوان .. هل ينهى عصر «الحزب الحاكم»؟

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 13 نوفمبر 2013 - 7:50 ص بتوقيت القاهرة

سقوط «دولة الإخوان المسلمين» فى مصر، ينتهى عصر كامل من تاريخ الوطن العربى: لقد انتهى زمن هيمنة الحزب الواحد الذى يلغى كل ما عداه من القوى السياسية فى هذا البلد أو ذاك، لينفرد بحكم البلاد والعباد بمعزل عن مدى تمثيله لشعبها.

ولقد تزامن سقوط دولة الإخوان فى مصر مع التخلى التدريجى فى سوريا عن أسطورة «الحزب الحاكم» ولو عن طريق إبراز «شركاء» هم فى حقيقة الأمر أحزاب عتيقة جدا أو مستحدثة تسلم بقيادة حزب البعث العربى الاشتراكى وتنضوى فى «الجبهة الوطنية» التى تنشأ عادة لتغطى حقيقة أن الحزب بقيادته، وأن القيادة بشخص القائد الرفيق الأمين العام القائد الأعلى للقوات المسلحة ومرجع أى قرار وكل قرار. وكما فى كل الأنظمة الشمولية فإن اللافتات الحزبية المعلقة فى كل مكان إنما تشكل إطارا عقائديا لصورة القائد الرئيس.

•••

وقبل ثلاث سنوات، تقريبا، أسقطت انتفاضة البوعزيزى فى تونس الحزب الحاكم الذى كان الجنرال زين العابدين بن على قد ركبه على عجل ليغطى انقلابه ثم حكمه العسكرى الفردى، فارضا الحظر على أحزاب تاريخية، أبرزها الحزب الدستورى الذى ظل الرئيس المؤسس الحبيب بورقيبة يتولى زعامته حتى خلعه «ربيبه» الجنرال واستولى على الحكم. وكان ذلك الحزب التاريخى والذى لعب دورا مميزا فى كفاح تونس، من أجل استقلالها وتوكيد دولتها، قد تفسخ وأنهكته مباذل السلطة وعَرَّضَهُ «غيابُ» المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة عن دوره القيادى فانهار وتلاشى منقسما إلى أحزاب وتنظيمات مستولدة على عجل امام الجنرال الطموح.. بل لعل بعض أقطابه قد ساعدوا زين العابدين على ابتداع حزبه الحاكم باسمه وبأمره منفردا.

وقبل عشر سنوات كان حزب البعث العربى الاشتراكى فى العراق قد تلاشى تماما، ولم يظهر له الأثر المتوقع من «الحزب القائد»، بالملايين من أعضائه، فى مواجهة القوات الأمريكية الغازية التى اجتاحت العراق فدمرته انطلاقا من عاصمته ذات التاريخ بغداد، ثم اعتقلت صدام حسين ومكنت خصومه من إعدامه، امام عيون جنودها الذين كانوا منهمكين فى نهب كنوز العراق من متاحفه ودار الكتب الوطنية ومن خزينته ثم من مواقع الآثار التى لا مثيل لها ولا شبيه، والتى تكاد تلخص بدايات التاريخ الإنسانى وحضاراته.

•••

وعلى امتداد ثلث قرن تقريبا حكم صدام حسين العراق فعليا ودائما تحت لافتة حزب البعث، وهو قد اقتدى بالنموذج السورى فأنشأ بل ركب «جبهة وطنية» من سائر الأحزاب السياسية بعدما اطمأن إلى إضعاف المتماسك منها، تحت قيادته.. لكن ذلك كله لم ينفع فى طمس حقيقة أن صدام كان الحاكم المطلق، وأن الحزب كان فى أحسن أحواله هيئة استشارية وقناعا للحكم الفردى أو العائلى، إذ إن صدام كلف إخوانه وبعض أبنائه بمهمات كان يفضل ان تحصر «داخل البيت».

يمكن إدراج «عصر معمر القذافي» فى ليبيا ضمن هذا السياق.. فهو قد بدأ اول الأمر باستنساخ التجربة الناصرية فأنشأ «الاتحاد الاشتراكى»، ثم استغنى عنه بمؤتمر الشعب العام الذى تديره «اللجان»، وفوق اللجان الشعبية أقام «اللجان الثورية» التى هو وحده مرجعها.. ولقد ذهب إلى أبعد فمنع نشر أسماء أعضاء الحكومة (أو اللجنة الشعبية العامة)، وكانت الصور الرسمية لاستقبال ضيوف الدولة تثير السخرية، إذ تسقط سهوا أسماء المسئولين الكبار ممن يستقبلون ضيوفه من ملوك ورؤساء.. وكذلك الأمر فى التليفزيون. اسم واحد فقط كان يرن فى أسماع الناس على مدار الساعة هو اسم الأخ القائد.

•••

وحين أسقطت الانتفاضة الشعبية فى ليبيا، معززة بطائرات حلف الأطلسى، بعد استنكاف بل تواطؤ الجامعة العربية مع القوى الغربية الطامعة بخيرات ليبيا، حكمَ العقيد معمر القذافى، وهى قد أشرفت على قتله والتمثيل به بتلك الطريقة الشنيعة والمنافية لأبسط شروط احترام إنسانيته، وجدت ليبيا ذاتها تغرق فى الفراغ المطلق، إذ لا حكومة، ولا مجلس نيابيا، ولا مؤسسات من أى نوع.. وها هى الآن نهب لمشروع حرب أهلية يكاد يدمر أسباب العمران فى هذه «الدولة» التى لم يقدر لها يوما ان تكون دولة، وما زال أهلها يحنون إلى الملكية وإلى الانفصال فى ثلاث ولايات شرقا وغربا وجنوبا، وإن ظل النفط يعطل هذا المشروع الذى بات القرار فيه فى أيدى «الدول» ذات الأطماع.

•••

فى مصر لم تنجح تجربة الحزب الواحد يوما، لا فى أيام جمال عبدالناصر عبر «الاتحاد القومى»، ثم عبر «الاتحاد الاشتراكى»، وإن شكل «التنظيم الطليعى» فى فترة محددة مشروع حزب يطمح لأن يكون قيادة الأمة، لكن رحيل عبدالناصر المباغت عطل هذا المشروع.. ثم جاء عهد السادات فحول الاتحاد الاشتراكى إلى «حزب السيد الرئيس»، ومثله فعل حسنى مبارك، الذى بدل اسم التنظيم لا غير فجعله «الحزب الوطنى»، لكن «انتفاضة يناير» فضحت الخواء المطلق وسيطرة مجموعة من المنتفعين والمنافقين على هذا التنظيم الذى كان يدر على قادته الثروات.. وهكذا اختفى «الحزب» منذ اللحظة الأولى من فجر 28 يناير.

يمكن الإشارة بسرعة إلى تنظيم «حركة القوميين العرب» التى كانت لها شعبية واسعة فى الخمسينيات والستينيات، والتى شاركت حزب البعث، بالاضطرار، لفترة انتهت بإقدام الأقوى على تصفية الأضعف.. ولكنها استطاعت ان تنفرد بسلطة ما مع قيام جمهورية جنوب اليمن قبل أن يتحول القياديون فيها إلى الشيوعية، ومن ثم إلى التسليم بقدر من الحماية السوفييتية للدولة الوليدة والفقيرة، قبل ان تمزق الخلافات صفوف «الرفاق» ويسقط الحكم الماركسى فى أيدى القبائل حتى صارت «الوحدة» مع الشمال طوق النجاة.. ولو على مضض. وها هو «الحزب القائد» قد بات أحزابا، لكل من «الرؤساء» الذين تسلموا السدة فى عدن، ذات يوم، حزبه، فى حين يغرق الشعب فى أتون الجوع، وتتوارى الأحزاب الكثيرة، شمالا وجنوبا، خوفا من «القاعدة» التى تتخذ الآن من اليمن السعيد بؤرة نموذجية لنشاطها.

اليوم، تكاد المنطقة العربية تخلو من الأحزاب الفاعلة، ذات البرامج الواعدة ببناء المستقبل الأفضل عبر توظيف الطاقات العظيمة للأجيال الجديدة.

هناك الكثير من أحزاب الماضى.. لكن أى حزب منها لم يعد يجرؤ على الادعاء أنه مؤهل لبناء الأمة الواحدة، بل حتى لبناء دولة قطرية عفية توفر العيش الكريم لأهلها.

ومع التقدير لدور الجيوش فى استنقاذ بعض البلاد التى حكمتها، ظاهريا على الأقل، أحزاب بقيت دائما ستارا لحكم القائد الفرد، فليست الجيوش هى المؤهلة والمطالبة ببناء الغد الأفضل.

•••

إن الحياة السياسية شبه معطلة فى معظم أرجاء الوطن العربى.. وهى معطلة بالأمر أحيانا، وبالعجز غالبا. وليس دور الجيش أن يخلق الحياة السياسية، وإن كان واجبه أن يحمى الوطن وحركة شعبه من أجل بناء غده الأفضل.

وهذه واحدة من المعضلات الخطيرة التى تتهدد الحياة السياسية، وتكاد تعطلها، تاركة الفراغ يغرى الجيوش بأن تتقدم لتعوض غياب الغائبين، أو لتشغله ريثما يحضرون.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved