ما بعد الخروج من الهاوية

مصطفى النجار
مصطفى النجار

آخر تحديث: الجمعة 13 نوفمبر 2015 - 9:45 ص بتوقيت القاهرة

لسنا فى الطريق إلى الهاوية إننا نقيم فيها، هذا ليس حطام الطائرة الروسية، إنه حطام الشرق الأوسط ليتنا نلمح فكرة تنقذ، ليتنا نسمع صوتا يدل على الطريق فشلنا فى إقامة دولة طبيعية، كشفت العاصفة عمق تخلفنا وعجزنا ووطأة قيودنا لم يأت مسلحو «داعش» من القمر، جاءوا من توحش منطقتنا ومجتمعاتنا، كان هذا ما كتبه غسان شربل عن أزمة سقوط الطائرة الروسية وما أتبعها من أحداث جسام.

الهاوية فى القاموس تعنى حفرة غامضة بعيدة القرار وتعنى أيضا اسم من أسماء جهنم أو أسفل جزء فيها، تعودنا كثيرا وصف أحوال بلادنا العربية بأنها على حافة الهاوية وتقترب من السقوط ترميزا لتدهور الأوضاع وعدم وجود بارقة أمل تنبئ بالإصلاح المنشود، لكن مع كثرة العثرات وتباعد الآمال صار الكثيرون يرون أننا قد بتنا مستقرين فى الهاوية فى أقصى القاع، ولا يوجد ما هو أسفل من نقطة استقرارنا حتى ننحدر إليه ونسقط فيه.

أهدى الربيع العربى فى2011 فرصة ذهبية للأنظمة العربية الحاكمة ونبهها إلى استحالة الاستمرار بنفس العقلية والأفكار الشائخة والسياسات الفاشلة التى قادت بلادهم للتردى والتراجع، لكن ركلت الأنظمة العربية الحاكمة هذه الرسالة ولفظتها فى صورة ثورات مضادة مباشرة أو مدعومة من قبل دول تخشى امتداد اللهب الثورى لشعوبها وبعد مرور ما يزيد عن أربع سنوات من لحظة البدء، يبدو المشهد الذى سبق هذه الثورات مكررا، بالإضافة إلى أنهار دم صبغت السنوات الماضية برغبات الثأر والانتقام والدعوة للتفكيك والتمزيق وليس الإصلاح واستكمال البناء.

•••

لا يحتاج الأمر لبراعة تحليل ولا نسج سيناريوهات لاستشراف المستقبل فكل ما نراه الآن يقول إننا فى مشهد انتقالى مؤقت سرعان ما سيتغير رغما عن الجميع، ورغم كل محاولات الإعاقة لينتج عنه مشهد جديد لا تنخدع فيه الشعوب بزعامات ولا شعارات ولا مؤسسات ولا مشاريع وهمية وإنما ستثقلها مرارة التجارب وتقودها إلى إقامة الدولة الوطنية الحديثة، التى تستطيع أن تجد لها مكانا فى ركب الحضارة الإنسانية.

لذلك فهناك ثوابت ينبغى عدم التفريط فيها أو السماح بالمساس منها فى المشهد الجديد القادم ومنها:

أولا: مدنية الدولة: يجب أن تكون صارمة المفهوم والتطبيق بإبعاد الدين نهائيا عن مستنقع السياسة وعدم السماح بتوظيفه لا من قبل الدولة ومؤسساتها ولا من قبل أفراد أو جماعات ما، بالتوازى مع إنهاء حالة العسكرة النفسية والفكرية والمادية التى تداخلت مع مفهوم الوطنية وفرضت عليه أشكالا من السيطرة والخلط الضار بكلا الناحيتين، مفتاح الدولة الحديثة هو المدنية الكاملة التى قد لا تروق للإسلاميين ولا للسلطويين ولكن أى محاولة لإرضائهم بالالتفاف حول مفهوم المدنية الكامل تنسف من الأساس الأمل فى أى نهضة مرجوة.

ثانيا: سيادة القانون: أحد عوامل التخلف الأساسية فى المنطقة العربية هو غياب القانون ووجود ترسانة من القوانين الرجعية والقوانين الفاسدة التى تقنن الفساد وتحصنه والنموذج المصرى كمثال زاخر بهذه الأمثلة لقوانين تم تفصيلها على مقاس الحاكم وأتباعه، لذلك فلا خطوة سنخطوها للمستقبل قبل نسف هذه الترسانة العفنة المتيبسة التى ضيعت حقوق الشعوب فى ثروات بلادهم وحصنت الحكام الفاسدين والقاتلين ومواليهم من المساءلة والعقاب، وكم من دساتير فخيمة المحتوى كتبت بماء من ذهب، ولكنها ذهبت أدراج الرياح مع أنظمة احتقرت هذه الدساتير وتجاوزتها.

ثالثا: المواطنة للجميع: عانت الشعوب العربية من التمييز بين مواطنيها على أساس طائفى ومذهبى وعرقى ودينى بل وسياسى ولم تقتصر المشكلة فقط على غياب القوانين التى تحمى حق المواطنة وتساوى بين الجميع بل امتدت للثقافة وللتعليم والمعتقدات الدينية المتطرفة التى تبث الكراهية ضد المغاير وتنتقص من حقوقه حتى صار هناك سلم هرمى تمييزى للمواطنين فى كل دولة، لذلك فبناء المجتمعات فى الدول الجديدة لن يتحقق قبل علاج هذه الآفة والتعامل معها ثقافيا وفكريا ونفسيا بالتوازى مع الحماية القانونية والضمانات التى تحقق المساواة الكاملة.

رابعا: العدالة الاجتماعية: المنطقة العربية غنية بمواردها المختلفة وثرواتها، لكنها عانت من سوء توزيع الثروة واحتكار فئات قليلة لها، لذلك فمن المفارقات العجيبة أن يكون من بين الشعوب العربية من يقبع تحت خط الفقر فى الوقت الذى يحتل فيه عددا من العرب مقدمة قوائم الأكثر ثراء فى العالم، لعب الفساد دورا كبيرا فى حرمان الشعوب العربية من الحياة الكريمة، رغم أن ما تملكه يكفل لها الحياة الرغدة بين شعوب الأرض، لذلك فتحقيق العدالة الاجتماعية سيصحبه منظومة للشفافية والمساءلة ضمن نظام إدارى حديث لا يسمح لشخص ولا جهة ولا مؤسسة بأن تكون خارج دائرة الرقابة والمساءلة والمحاسبة، العوز والفقر الذى تعانى منه كثير من الشعوب العربية لا سبب له سوى سوء الإدارة وتفشى الفساد وخلل التفكير وغياب المساءلة والتقويم والبعد عن المنهج العلمى، والأكذوبة التى ترددها الأنظمة الفاشلة عن قلة الحيلة وانعدام الموارد إنما هى أساطير متتالية تتداولها لتثبيط الشعوب وقمع أحلامهم وجعلهم يرضون بهذه الحياة البائسة.

•••

هذه بعض الأساسيات التى ينبغى التعمق فيها والاتفاق عليها بنماذجها التفصيلية وبحث آليات تحقيقها وتطبيقها، المستقبل على بعد خطوات منا لكن يجب أن نستعد له حتى لا نكرر أخطاء الماضى وإن غدا لناظره قريب.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved