كى لا تموت الفلاحة

داليا سعودي
داليا سعودي

آخر تحديث: الإثنين 13 نوفمبر 2017 - 10:25 م بتوقيت القاهرة

هى مَلَكةٌ، لا أدرى إن كانت نعمة أم نقمة، تلك التى أورثنى إياها طولُ فِلاحةٍ فى حقول اللغويات المقارنة. ملكةٌ تجعلنى أقرأ العبارةَ فى لغة الضاد فأتمثَّل تأثيرَها فى اللغات الغربية. هى ممارسةٌ تتعدى الترجمةَ وتتجاوزها، لتتفحص وقع العبارة فى ذهنية المستمع الغربى، فترى مدى انسجام الفكرة التى تحملها الكلماتُ العربية مع جملةِ استعداداتِ الجماعة الإنسانية فى الغرب ومع عاداتها وتوجهاتها العقلية والأخلاقية والمعرفية والوجدانية. هى لعبة مرايا ألعبها تارة لمطالعة الذات فى مرآة الآخر، وتارة أخرى للنظر فى انعكاس صورة الآخر فى مرآة ثقافتنا العربية. وكثيرا ما تقودنى لعبة المرايا الثقافية تلك إلى نتائج كاشفة، تحيط خبرا بما وصلتْ إليه منظومتُنا العقلية من عبثية.

***

فى لعبة المرايا المحدبة والمقعرة التى تُظهر تباين الثقافات، كثيرةٌ هى الأمثلة التى يصلح أن نخضعها للبحث النقدى. لكن مثالا بعينه استقطب الاهتمام فى الفترة الأخيرة. فبينما كانت وسائل إعلامنا المصرى منشغلة بتصوير منتدى شباب العالم المنعقد فى شرم الشيخ بمثابة فتحٍ حضارىٍّ على درب مخاطبة الغرب، وإجلاء صورتنا الناصعة فى عيون الآخر، لم تتناول الصحافة العالمية من قريب أو بعيد أى أخبار حول المنتدى، فيما تناقلت بسرعة تشبه سرعة انتشار النار فى الهشيم تلك العبارة التى أطلقها محامٍ مصرى شهير حول تحتيم «الواجب الوطنى» على الرجل المصرى «اغتصاب أى فتاة» تسول لها نفسها ارتداء «البنطلون الممزق»!.

***

وجدتُ العبارةَ ــ كما توقعتُ ــ فى الصحف العالمية بعد 24 ساعة من صدورها فى برنامج من برامج حواراتنا الليلية. وجدتُ تعليقات قراء تلك الصحف الأجنبية على مواقع التواصل يعلنون عن صدمتهم وامتعاضهم وسخريتهم. أهو انحياز إعلامى ضد مصر كما يحب أن يردد أنصارُ نظرية المؤامرة المنسوجة بعناية لتفسير شتى تفاصيل حياتنا اليومية أم أن ثمة تفسيرا آخر؟

***

الواقع أن كثيرا من تصريحاتنا الرسمية ومقولاتنا العفوية صارت تخدش ما بات راسخا لدى الأسرة الإنسانية من «ذاكرة جماعية»، و«حساسية مشتركة»، و«معقولية جامعة». ففى العبارة المذكورة، ثمة هتك فادح لذاكرة جماعية ناضلت رموزها عبر التاريخ الإنسانى لمنح المرأة حقوقها والتأكيد على احترامها. وفى العبارة انتهاكٌ جسيم لحساسية جماعية قررت فى هذه اللحظة من تاريخها محاسبة مقترفى جرائم التحرش مهما علا قدرُهم فى مؤسسات الحكم والفن والدين والأكاديميا والأعمال. وفى العبارة قلبٌ صادم للمنطق السليم وخرقٌ مشبوه للمعقولية الجامعة يدرج جريمة الاغتصاب تحت مظلة الواجب الوطنى، ويمرر فكرة مكياﭬيلية خبيثة مفادها أن غاية الواجب الوطنى النبيلة قد تبرر القبول بكثير من الوسائل الإجرامية. وهى رسالة سياسية شديدة الخطورة لما بها من قدرة على تزييف الوعى وقلب المعايير. ولقد فطن إلى خطورتها القارئ الغربى بسهولة. ففى حوار بين كاتبين فرنسيين تعليقا على جملة المحامى المصرى، سأل أحدهم: «ألن يحاسبه أحد؟» ليرد الآخر: «مثل هذه التصريحات خبزٌ يومى فى الإعلام الموجه يا صديقى. إنها أعراض العبثية!».

***

فما هى العبثية؟ 
«العبث، كما كتب نجيب محفوظ فى رواية «ثرثرة فوق النيل»، هو فقدان المعنى، معنى أى شىء. انهيار الإيمان، الإيمان بأى شىء. والسير فى الحياةِ بدافع الضرورة وحدها ودون اقتناع وبلا أملٍ حقيقى. وينعكس ذلك على الشخصية فى صورةِ انحلالٍ وسلبية، وتُمسى البطولةُ خرافة وسخرية ويستوى الخير والشر، ويُقدَم أحدُهما ــ إذا قُدم ــ بدافع من الأنانية أو الجبن أو الانتهازية. وتموتُ القيم جميعا وتنتهى الحضارة».

***

إنَّ مقولةَ «البنطلون الممزق» وشبيهاتها تنهى الحضارة وتغلق أبواب التاريخ لأنها تفتح الباب على مصراعيه لجحافل العبثية. وهى آفة لا تعد حكرا على العقل العربى، وإن تجلت فيه بصورة مستفحلة، بل تظهر بوادرها عالميا حيثما تفاقمت أزمة المعنى وغاب المثقفون أو غُيبوا، لتقودنا العبثية العمياء إلى نهاية التاريخ. وهى حالة رصد نُذُرَها المفكر السياسى الأمريكى فرانسيس فوكوياما. فوصفها بأنها أشد مراحل التاريخ بؤسا، حيث تنعدم إرادة التضحية من أجل بلوغ هدف نبيل، وتخفت أصوات النضال التى تمجد المثل الرفيعة والشجاعة والخيال والإبداع، ليحل محلها حسابات المكاسب والخسارة الاقتصادية، ومحاولات حل المشكلات التقنية الأداتية التى لا تنتهى، ووسائل إشباع الحس الاستهلاكى المتزايد. لتختفى تبعا لذلك الفنون والفلسفة، وتخرج من تفاصيل حياتنا، فتصبح مجرد ذكرى مطوية داخل أروقة المتاحف. ليستقر الحنين المتجدد إلى ماضٍ لم تشهد فيه الحياة الإنسانية هذا القدر من العبث.

***

إن هذا الوضع البائس ما كان ليحدث عبر السنين لولا ما وصفه الفيلسوف الفرنسى جوليان بندا فى كتابه الشهير «خيانة المثقفين» بشأن صمتهم وتواطُئِهم مع السلطة فى انتهاك حقوق الإنسان الذى ساد فى القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين نكوصا على ما نادت به الثورة الفرنسية، منتقدا افتقار المثقفين الأوروبيين للتجرد من الأهواء السياسية وللحيادية الفكرية واصطفافهم للترويج لنسخة مبتذلة من القومية المغموسة بالكراهية والعنصرية والفئوية. ولو كان بندا بيننا اليوم لما وجد مشقة فى إيجاد الأمثلة التى تساعده على نمذجة أطروحته. فمن جهة، هناك سلطة تصر على إبقاء المثقفين داخل الحظيرة الدعائية الموروثة منذ الحقبة الناصرية، ومن جهة أخرى، هناك «مثقفون» تميزت مصالحهم عن مصالح الجماهير وتنازلوا بوعى كامل عن استقلاليتهم واستمرأوا عبثية الدور الموكل إليهم. 

***

وبعد، فلنسأل: «أين الصدق فى هذا الظلام؟» 
و«كيف يمكن تحويل أناس عابثين إلى عقيدة؟»
أسئلةٌ يطرحها اثنان من أبطال رواية «ثرثرة فوق النيل» التى تقدم رؤية عبثية تختلف عن تلك التى قدمها الأديب الفرنسى ألبير كامو مبتدع فلسفة العبث. فبالنسبة لكامو، العبثى وصل إلى عدميته بعد فشله فى بحثه المضنى عن المعنى، ويأسه من بلوغ بر الإيمان بقيمة عليا. إن العبثى عند ألبير كامو يقتل نفسه وحده، مثلما مات كامو فى حادث سيارة على الطريق السريع. أما عبثية مثقفى رواية محفوظ، المنطلقين داخل سيارتهم بسرعة الجنون، ولم يبرأ وعيُهم من تأثير الحشيش، ولم تسلم ضمائرهم من الانتهازية، مثل تلك العبثية تقتل أمة بأسرها، لأنها تزيف الوعى الجمعى، وتمثل خيانة لدور المثقف مع سبق الإصرار والترصد.

***

فى الفيلم الشهير المأخوذ عن رواية «ثرثرة فوق النيل»، يردد أنيس زكى الذى يؤدى دوره الفنان عماد حمدى، تحت وطأة وخز الضمير الحاد: «الفلاحة ماتت ولازم نسلم نفسنا...». وبالفعل تقتضى اللحظة التخفيف من سرعة العربة الطائشة، وإجراء مثقفينا مراجعة دقيقة لضمائرهم، كى لا تموت الفلاحة كل يوم مرات ومرات.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved