الطريق الثالث

محمد محمود الإمام
محمد محمود الإمام

آخر تحديث: الأحد 13 ديسمبر 2015 - 11:15 م بتوقيت القاهرة

أوضحنا فى المقالات السابقة أن النظم التى طبقت عقب الحرب العالمية الثانية تراوحت بين رأسمالية عاتية تقودها الولايات المتحدة وتطبيق لينينى لشيوعية صاغها ماركس وإنجلز، انطلاقا من مدخل اقتصادى تراه محققا للكفاءة فى الإنتاج، وترتبت عليه ما يتمخض عنه من تنظيم للعلاقات الاجتماعية، استكمله الأول بإعادة توزيع للدخول تحقق عدالة اجتماعية فى ظل نظام ديمقراطى يقوم على مشاركة شعبية، بينما أحدث الثانى تغييرا جذريا فى التركيبة الاجتماعية يقوم على ديكتاتورية الطبقة العاملة التى تعتبرها المستحقة لملكية رأس المال الناتج عن فائض قيمة حققته. وأوضحنا أن الأصوب هو مقاربة الأمر من المدخل الاجتماعى المعبر عن رغبات جميع أفراد المجتمع وتشييد أنساق سياسية واقتصادية وإدارية تلبيها على أفضل وجه. ثم تابعنا تطور العلاقة بين حجم المنشأة ومسئولية الدولة، بدءا من منشآت تحقق منافسة عادلة وصولا إلى عابرات قوميات تمتد أنشطتها حدود الدولة، وتلقى بظلها على الديمقراطية المزعومة، داخل حدود دولة المقر وخارجها.
***
وخلال الربع الأخير من القرن الماضى تنامت أبعاد ما أطلق عليه «عولمة»، وهى فى جوهرها «أمركة» فرضتها الولايات المتحدة، سواء على باقى الدول الغربية المتقدمة (العالم الأول) أو على الأبعاد السياسية والاقتصادية والثقافية مجموعتى الدول الاشتراكية (العالم الثاني) وحديثة العهد بالاستقلال (العالم الثالث، ومنها مصر). وتم ذلك بخطوات تشمل:
• تطبيق مقترح مؤسسة للبحث والتطوير RAND أنشأتها لبحث أنجع السبل لطَرْق مجالات لم يسبق ولوجها تدفع بها عجلة تقدمها، وتمكنها من إدارة حرب محتملة عن بُعد، بَعد أن ثبت أن جدوى الحرب النووية التى ارتكبت جريمة فتح أبوابها تتوقف عند الردع وإلا أصيبت مع باقى العالم بشتاء نووى، فقصرت استخدامات الذرة على مجال الطاقة. وبدأت مجال غزو الفضاء، الذى يفتح لها باب جريمة أخرى هى التجسس، ثم سباق الصواريخ وما صحب ذلك من تطوير لأنشطة المعلومات والاتصالات، وفى نفس الوقت أجبرت الاتحاد السوفيتى على تحويل جانب من موارده عن استكمال بناء المعسكر الاشتراكى، وحرصه على حجب ثمار التقدم الذى حققه فى بعض المجالات عن منشآت الإنتاج المدنى، على عكس ما قامت به الولايات المتحدة، فدعمت به مسيرتها الاقتصادية وقوة عابراتها للقوميات.
• الإصرار على إقامة نظام نقدى دولى أساسه الدولار القابل التحويل للذهب، ليكون عملة تحتفظ بها جميع دول العالم كاحتياطى للمعاملات الدولية. ورفضت مشروعا بريطانيا قدمه لورد كينز بإنشاء اتحاد مدفوعات عالمى يقتصر على سداد أرصدة التعامل المدينة بعملات يتفق عليها. وبذلك تمكنت من إنشاء طلب على الدولار يفوق احتياجاتها، يتيح لها مصدرا لتمويل استثمارات لديها، وجعلت صندوق النقد الدولى المقام فى واشنطون رقيبا على أسعار صرف عملات باقى الدول بالدولار، وتركت دولا أخرى، كالصين والاتحاد السوفيتى تقتنى الدولار بداخلها فساهم هذا فى التوسع فى إصدار الدولار وظهور ما يسمى اليورودولار، وإكسابه قوة تتجاوز حقيقة قيمته، عززها ظهور سوق سوداء فى أسواق العديد من الدول ومنها مصر التى اعتمدت سعرا تشجيعيا بسوق موازية.
• عززت الولايات المتحدة خلال الحرب اقتصادها بالإنتاج للتصدير للدول المحاربة، واستمرت بعدها فى تزويدها بمتطلبات تعميرها، وحثتها على إنشاء سوقها المشتركة لتتعامل معها ككتلة واحدة وعلى إقامة لجنة للتعاون الاقتصادى تنسق طلبها للمعونة التى مولتها بمشروع مارشال، فضلا عن إنشاء البنك الدولى ليقدم تمويلا لتعمير اقتصاداتها المدمرة ثم مساعدة الدول المحتاجة لتمويل مشروعات التنمية (كان الأفضل تسميته البنك الدولى للتعمير والتنمية).
• رغم عدم محاولة دول السوق الأوروبية المشتركة الحد من الاستيراد من الولايات المتحدة إلا أنها استطاعت توجيه نسبة متزايدة من صادراتها إلى شريكاتها وإلى باقى العالم، بينما تصاعدت القدرات الاقتصادية للدول المهزومة خاصة ألمانيا واليابان. فكان طبيعيا أن تتضح أخطاء سياسة الولايات المتحدة فى 1967 فانتهى الأمر بخروجها من قاعدة الذهب وتخفيض سعر صرفها، تاركة باقى الدول تعوم عملاتها، وانهار نظام بريتون وودز فى بداية السبعينات.
• شهدت السبعينيات ركودا اقتصاديا مصحوبا بتضخم تجاوز معدله 10% لديها. وغذته برفع أسعار تصديرها للمواد الغذائية وخاصة القمح (فكان سببا فى ظهور مشكلة الدعم فى مصر قى 1973) وأيدت رفع أسعار البترول باتفاقية أوبك فى طهران 1970 ثم عقب حرب أكتوبر 1973 لتحقق مكاسب على منافسيها المعتمدين على استيراد البترول وتزيد أرباح إنتاج آبارها فتنفقه على بحوث مصادر بديلة للطاقة. فعانى العالم من أزمات فى الأغذية والطاقة. ونجم عن ذلك ارتفاع فى أسعار الفائدة، فتصاعدت مديونية الدول النامية وتوقفت عجلة تنميتها خلال عقد الثمانينات، وتعرض المعسكر الاشتراكى لمشاكل لأنه كان يحسب أسعار صادراته على أساس متوسط السنوات الخمس السابقة للتصدير بينما يتعامل بالأسعار السائدة عند الاستيراد، وانتهى الأمر بانهياره فى نهاية ذلك العقد.
• أحدثت الولايات المتحدة تغييرا جوهريا فى السياسات الاقتصادية باعتمادها منهج النقودية monetarism أساسا لإدارة الاقتصاد القومى بدلا من اعتبار النقود تعبيرا عن قيم الموارد العينية والمنتجات، يديرها البنك المركزى، وهكذا تراجع دور الدولة وميزانيتها العامة، بينما نشأت تجارة العملات المعومة، التى تعتبر عملية ربوية بامتياز، وتضاعفت نتيجة للمضاربات وتعدد الصكوك المتعلقة بنفس المبلغ أو ما يسمى المشتقات. وأصبح مديرو مؤسساتها النقدية من أباطرة الاقتصاد وهو ما تجلى خلال أزمة 2008.
• وعندما تولى ريجان الحكم خلال الثمانينات فى ظل معدلات تجاوزت 10% للتضخم وأسعار الفائدة أقنعه الاقتصادى آرثر لافر بتخفيض الضرائب على الشركات لتتوسع (كما أشار ابن خلدون) فى إنتاجها وحل مشكلة البطالة، موضحا فكرته برسم بيانى على منشفة ورقية خلال تناول طعام الغذاء. وهكذا ظهر ما يسمى «اقتصاد جانب العرض» الذى نادى به الاقتصاديون الكلاسيك وأثبت كينز خطأه وشدد على دور الدولة فى توسيع الطلب. وزاد هذا من تقليص حجم الدولة ودور سياساتها المالية والضريبية. وفى نفس الوقت قررت ثاتشر خصخصة القطاع العام البريطانى الذى توسع فيه حزب العمال، وبدأت بربط قطاع الاتصالات بنظيره الأمريكى، فبدأ عهد جديد تراجع فيه دور الأحزاب الاشتراكية التى كانت لها الأغلبية فى البرلمان الأوروبى. وظهرت أنظمة وسطا بين النقيضين: الأمريكى الذى اشتدت شراسته والسوفيتى الذى انهار معسكره .
***
وعندما تولى كلينتون الحكم حاول أن يلتف حول النظام الذى خلفه ريجان باتباع ما أطلق عليه الطريق الثالث، وتبعه بلير الذى أحيا دورا للسوق فى نظام اشتراكى وفق منهج طرحه مدير مدرسة لندن للاقتصاد جيدنز. وتتلخص معالم الطريقين، البريطانى المعتدل والأمريكى الراديكالى فى الآتى:
• القيم التى نادى بها الأول هى العدالة، والثانى إتاحة الفرص للجميع.
• الفلسفة السياسية: المرونة مع ضمان الحد الأدنى للمعيشة، مقابل إعطاء الفرصة للريادة.
• التعامل مع العولمة الاقتصادية سياسيا، مقابل تقبلها كما هى (لأنها أمركة كما أوضحنا).
• تعامل السياسة الاقتصادية على ضبط الاقتصاد الكلى بجانبيه العرض والطلب مقابل الاقتصار على جانب العرض (استمرارا للريجانية).
• تمتلك الحكومة السيادة وتقوم بمساومة رجال الأعمال، مقابل المشاركة بين الطرفين.
• ترجيح مسئولية الحكومة أمام المجتمع، مقابل تحميل المسئولية على المجتمع.
• اعتبار الجماعية سياسة مكملة، مقابل اعتبارها نتاج حملة أخلاقية.
• تحويل مفهوم دولة الرفاهية من حقوق المواطن من خلال إعادة تشكيل الضمان الأساسى مقابل قصرها على تدعيم قابلية التوظف، وتحميل العامل مسئوليتها
• شمول التحديث لمختلف الجوانب: الاقتصادى والثقافى والاجتماعى مقابل قصره على الترشيد الاقتصادى.
• إعطاء سلامة البيئة الإنسانية دورا اقتصاديا كبيرا، مقابل عدم الارتباط بالتزام محدد (وذلك لتتفوق فى الربحية وتحمل باقى الدول تكاليف تصدير منتجات وقاية البيئة لها).
• إعطاء الحزب دورا هاما فى تحقيق التفاعل الاجتماعى والمشروعية، مقابل تقديم الشعب وتهميش دور الحزب.
• اتباع إستراتيجية لمعالجة ما تقدم على إجراء التغيرات الهيكلية اللازمة والتفاعل المباشر،
وسوف نزيد هذه الأمور تفصيلا عند طرح ما يمكن تسميته الطريق الرابع.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved