في مصر عادت السياسة الخارجية بحلوها ومرها تتصدر الاهتمامات

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 13 ديسمبر 2017 - 10:19 م بتوقيت القاهرة

تطور لا تخطئه عين مدربة أو أذن مجربة أو عقل يراقب وهو أن في مصر فورة اهتمام بالشأن الخارجي. هناك من يحذر. هناك أيضا من يشجع ويؤيد. وهناك من يعيد إلى الأذهان ذكرى التجارب الأليمة نتيجة استغراق أو اهمال في ممارسة سياسة خارجية نشطة  تشحن التردد والحذر، وذكرى الانتصارات المجيدة التي تحققت بفضل انتهاج سياسات خارجية معينة حركت حماسة كثيرين ودفعتهم للمطالبة باهتمام أوسع وأعمق بالسياسة الخارجية.

                                             ***

 كان توجها منطقيا وعاطفيا من جانب النظام الجديد في مصر أن يقرر أهمية استعادة بعض ما كان لمصر من مكانة في الخارج. هذا التوجه افترض مسبقا ضرورة توافر حد أدني من كل شرط من شروط خمسة ضرورية؛ أولا وجود  قدرة عسكرية مناسبة وهي القدرة التي تأثرت سلبا أيما تأثر  خلال سنوات حكم الرئيسين السادات ومبارك. أسباب انحسارها معروفة أكاديميا ولدى المسئولين عن تطويرها ، وأتصور أن الحرص بادي الآن للتخلص بسرعة من بعض هذه الأسباب. ثانيا  تحقيق مستوى معقول من الاستقرار السياسي الداخلي، وهو الاستقرار الذي تعرض لدرجة قصوى من الاختلال أثناء جهود  دفع ثورة  يناير بعيدا عن أهدافها المتواضعة ومسيراتها السلمية. هنا، كما في الشرط الأول، كانت التكلفة هائلة في البحث عن مصادر للتمويل في مخزون العلاقات الخارجية. ثالثا وجود نخبة دبلوماسية بعقل مرتب وذاكرة جمعية وفردية قوية، هذه تعرضت بدورها  خلال فترة غير قصيرة للإنهاك بسبب التراخي وضعف الدور وندرة القضايا والمشاكل المطروحة  طوعا على العقل الاستخباراتي والدبلوماسي والإعلامي المصري والانسحاب من كثير من مواقع الاشتباك الدبلوماسي. رابعا توافر القدرة التمويلية الضرورية للإنفاق على دعم القدرات الدفاعية وإقامة مواقع للنفوذ الخارجي وصيانة القائم منها، هذا الشرط لم يكن متوفرا من أساسه الأمر الذي فرض اللجوء إلى أرصدة استراتيجية  مثل المبادئ والقيم الأخلاقية فاستنزف جزء منها. خامسا وجود حد أدنى معلن وواضح من التزام معظم أو كل الدول العربية بالهوية العربية، هوية لها الأولوية على ما عداها من هويات فوق قطرية أو تحت قطرية. كان مفاجئا على الأقل للمخضرمين في نخبة السياسة الخارجية مدى الانفراط الذي أصاب  جامعة الدول العربية بشكل خاص والعمل العربي المشترك بشكل عام. لا شك أن دقة وضع الشروط الخمسة جعلت إشباع الرغبة العارمة نحو استعادة بعض ما كان لمصر من مكانة إقليمية ودولية عملية باهظة التكلفة ماديا ومعنويا.

                                                 ***

  لم تقتصر صعوبات استعادة كل أو بعض مكانة مصر في العالم الخارجي على عدم التوافر الأمثل أو حتى المناسب للشروط اللازمة بل تعدتها إلى صعوبات استجدت خلال تنفيذ جهود الاستعادة. أذكر فقط على سبيل المثال ما اعتبرته أنا شخصيا من قبيل التشفي في حال الأوضاع المحلية المتردية في مصر. كنت شاهدا خلال انكشاف وضع الأزمة المالية في أعقاب حرب 1973 على مواقف مشينة من جانب دول إقليمية حاول مسئولون فيها الحط من قيمة مصر بل فرض الوصاية المالية عليها بذريعة الخوف من تبديد حكومة مصر للمعونات الخارجية. لن أقلل من آثار هذه المحاولات على السياسة الخارجية المصرية، يكفيني ذكر دورها في تشكيل البيئة الحاضنة لقرار الرحلة الشهيرة إلى القدس وقرارات خطيرة أخرى اتخذها مسئولون مصريون في مناسبات لاحقة. ومع ذلك لم أتفق  يوما مع اتهام تردد في مراحل متعددة . يزعم الاتهام أن دولا خارجية، إقليمية ودولية، نجحت مرات في "شفط" القدرات المصرية الكامنة أو مرحلة كاملة أو حزمة سياسات أو قرارات بعينها منتهزه فرص انحدار المكانة أو حاجة مصر إلى المعونات أو تراخي حال قيادات أجهزة صنع السياسة الخارجية المصرية. وقعت أخطاء وجرت محاولات تنويم وتخدير لم تنجح إلا نادرا وحدثت تنازلات وتأثرت سلبا مصالح قومية مصرية ولكن لم تأخذ أي من هذه المحاولات الشكل الممنهج أو متوسط الأمد.

                                                  ***

 مرت فترات على مصر يتعين على الدبلوماسية المصرية دراستها جيدا بل الغوص في أعماق  السياسات والقرارات التي اتخذتها خلال هذه الفترات بحثا عن دوافع اتخاذها لتفادي الوقوع في مثيلاتها في المستقبل. يأتي في صدارة هذه الفترات الفترة التي فتحت فيها القيادة السياسية المصرية صدرها لفيض من الضغوط الاقليمية، عربية وغير عربية، لتخلع دروع الحذر وتدخل في مواجهة عسكرية مع اسرائيل. وقعت هذه الضغوط  خلال فترة امتدت من مطلع عام 1966 واستمرت حتى نشوب حرب يونيو في العام التالي. في هذه الفترة لعب الاعلام المصري أسوأ  أدواره وأهملت القيادة السياسية الإنصات إلى الصوت الهادئ للدبلوماسية المصرية الذي ظل يبعث برسائل الحرص والهدوء على امتداد مرحلة الضغوط الاقليمية.

 في مرة أخرى كان في إمكان الدبلوماسية المصرية التشبث بموقفها المناهض لاستعدادات أمريكا شن حرب غير مبررة ضد العراق. كانت الدبلوماسية المصرية على حق وربما لو أخذت القيادة السياسية برأي الدبلوماسية وحثت مختلف الدول الإقليمية على التغاضي عن خلافاتها مع الرئيس صدام لتردد المحافظون الجدد ولاستمع الرئيس جورج بوش إلى صوت العقل وتخلى عن أحد أخطر المخربين من حلفائه وأقصد السيد طوني بلير رئيس حكومة العمال في المملكة المتحدة في ذلك الوقت. كانت الخارجية المصرية على حق ولكن كان صوتها خافتا ومهذبا وسط أصوات طبول الحرب.

 في أعقاب صعود رئيس جديد إلى السلطة  في مصر وهزيمة  ما كان يسمى بمراكز القوى في مصر بدأت هادئة ضغوطا مالية ودبلوماسية واستخباراتية عربية وانتهت حملة وخطة محكمة فور انتهاء معارك  حرب 1973 . كان الهدف إجراء تحول جوهري في مسيرة البلاد نحو خط سياسي داخلي وخارجي يعتمد التطرف الديني منهاجا وأيديولوجية وأداة دبلوماسية وتوجه عام في السياسة الخارجية المصرية وبخاصة في إفريقيا.  كانت الذريعة الشكلية إرضاء أمريكا بانتهاج سياسة خارجية مصرية تطارد الشيوعيين والاتحاد السوفييتي في إفريقيا وبخاصة في شرق القارة. انتهى الأمر بهيمنة تيار ديني متطرف على الداخل المصري بأكمله، مصر تدفع الآن باهظا وبعنف شديد ثمن تجاهل التحذيرات الدبلوماسية المتكررة في ذلك الحين.

   لن تعود مكانة مصر بثمن بسيط، ولن تعود أصلا إلا إذا تكاتفت كل القوى التي تتشكل منها بنية السياسة الخارجية. لن تعود إلا إذا نجح الإعلام الناضج في استنهاض الرأي العام المصري ليشارك ببصمته المختلفة نوعا وبالضرورة في صنع مستقبل الإقليم. .  

 

 

 

                                                                      

                         

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved