أوروبا تعيد النظر
جميل مطر
آخر تحديث:
الأربعاء 14 فبراير 2024 - 8:00 م
بتوقيت القاهرة
يوحى مشهد أوروبا فى لحظتها الراهنة لمراقب خارجى بانطباعات تستحق الالتفات إليها. تظهر أوروبا أحيانا كجماعة مستمرة فى افتقاد فتوتها وفى أحيان أخرى راغبة فى استعادة ما فقدته منها. من دلائل المشهد التصريحات المتناقضة نصا وروحا لمسئولين كبار ليس فقط فى داخل مؤسسات الجماعة الأوروبية ولكن أيضا داخل الدول الأعضاء. منها أيضا التغيرات الحقيقية فى مواقف عدد متزايد من هذه الدول تجاه قضايا دولية بعينها وأهمها بالنسبة لنا الحرب الأمريكية الإسرائيلية على شعب فلسطين. دليل آخر هو ظهور علامات فى سلوك دول أوروبية تكشف عن حال إحباط سياسى عام فى بعض دول الغرب وارتباك، ولا أقول حال تخبط، تجاه تطورات استجدت على عدد من القضايا الدولية. توحى الصورة العامة بتراجع مكانة أوروبا فى العالم الخارجى وبخاصة فى عالم الجنوب أو ربما بميوعة لم تكن فى السابق من سمات السياسة الخارجية لهذه الجماعة. أتصور، كمراقب، بين مراقبين عدة، وجود أسباب كثيرة تقف وراء هذا المشهد، تتصدرها الأسباب التالية:
أولا: واقع لم يعد يحتمل الإنكار أو حتى التشكيك وهو حال التراجع المتواصل فى مكانة الزعامة الأمريكية لدول الغرب وفى هيمنتها بشكل عام على السياسة الدولية. لم تعد أوروبا التابع الطيب المطيع دائما لتوجيهات الدولة القائد فى الغرب. وفى الواقع لم تعد الولايات المتحدة تقدم النموذج الأمثل لقطب مهيمن وقادر على فرض إرادته ليس فقط على مختلف دول العالم الخارجى وإنما أيضا داخل المجموعة الغربية.
ثانيا: ماديا وعسكريا أثبت الحلف الغربى أنه غير قادر على تحمل تكلفة حربين فى وقت واحد، وعندما تعين على أمريكا الاختيار بين حليفين اختارت دعم إسرائيل فى حربها ضد الشعب الفلسطينى على الاستمرار فى دعم أوكرانيا فى حربها ضد الاتحاد الروسى، الخصم الرئيس للغرب. المثير فى الأمر أن الغرب توحد فى بداية حرب إسرائيل ضد الفلسطينيين قبل أن ينتبه أعضاء فيه إلى أن الأمن القومى لكل أو معظم دول الغرب مرتبط بنتيجة الحرب فى أوكرانيا وليس بحرب إسرائيل بينما اختارت أمريكا هذه الأخيرة متجاهلة نوايا وسياسات ومصالح بقية أعضاء الحلف، خاصة وقد اتضح أن مساهمة أمريكا المادية فى حرب أوكرانيا لم تؤهلها إلا لمكانة متأخرة جدا فى ترتيب الدول الداعمة ماديا لأوكرانيا. ليس خافيا الشعور بالغبن، إن لم يكن أسوأ، الذى تولد لدى بقية الحلفاء الغربيين.
ثالثا: وقعت أحداث السابع من أكتوبر فمهدت لموقف موحد وكاسح فى كل الدول الأوروبية من شن إسرائيل حربا ضد من أسمتهم حماس. تعاطفوا مع إسرائيل، بعضهم زايد على أمريكا وعلى إسرائيل ذاتها. بمضى الحرب اكتشفت قطاعات فى الرأى العام الأوروبى أن حرب إبادة هى الجارية فصولها فى فلسطين وليست حربا ضد أفراد مقاومة. انفض الإجماع الذى ساهمت أمريكا فى صنعه وانقسمت دول أوروبا فى مجموعها وفى داخل كل منها. كانت خسارة أمريكا المعنوية واضحة وبعدها خسارة ألمانيا وذهب بعض المكسب إلى اليمين القومى فى عدد من دول القارة وبعض آخر منه إلى حال إحباط عام من قادة حلف فشل فى إقناع نتنياهو بعدم المغالاة حرصا على إبقاء القارة بعيدا عن عودة العداء للسامية ضمن موجة صعود اليمين المتطرف. هذا الإحباط تمدد حتى وصل إلى عواصم عربية عديدة أو تصادف أن ظهر له قرين فى دول الشرق الأوسط.
رابعا: لم يحدث على امتداد حياة الحلف الغربى أن توافق تماما أو دائما الرأيان الأوروبى والأمريكى حول إقليم الشرق الأوسط. الأعراف التاريخية، فى تفاصيلها الدقيقة، ربطت بين الإقليمين الأوروبى والشرق أوسطى إلى حد كثيرا ما أزعج صانع السياسة الأمريكى. إذ استمر إلى يومنا هذا الشعور بسطحية الفهم الأمريكى للعقل الشرق أوسطى مقابل وجود قضايا يختص بها ساسة أوروبا والشرق الأوسط، منها قضايا المهاجرين ومسئولية أوروبا عن إنشاء دولة إسرائيل على أرض عربية وتراث الحروب الصليبية والاستعمار. لذلك يظل من حق الأوروبيين الاقتناع أو الزعم بأن عدم الاستقرار السياسى فى دول الشرق الأوسط عامة وفى الدول المطلة على البحر المتوسط بخاصة يمثل تهديدا لأوروبا أكثر كثيرا بما يمثله للولايات المتحدة الأبعد صلة وتأثيرا مباشرا. ظهر واضحا فى الآونة الأخيرة فداحة خطأ وقعت فيه الولايات المتحدة عندما غامرت بالخروج من الشرق الأوسط دون الاهتمام بترتيب دور مناسب لأوروبا فى المنطقة خلال الغياب الأمريكى.
خامسا: تسببت رحلة أمريكا من الشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى فى ابتكار نوع من تحالفات غير إقليمية تعوض به العجز عن إنشاء حلف باسيفيكى قوى وفاعل. من هذه التحالفات الصغيرة حلف يضمها مع المملكة المتحدة وأستراليا وحلف يضمها مع اليابان والهند وأعلن بلينكن خلال زيارة لإفريقيا عن حلف أطلق عليه «الشراكة من أجل الأطلسى» هدفه الحقيقى تعزيز دور أمريكا كمنافس لمبادرة الحزام والطريق الصينية، من ناحية أخرى سد النقص فى قوة الوجود الأوروبى فى القارة السمراء، وفشله فى وقف تمدد منظمة البريكس فى إفريقيا، ورغبة فى وقف توسع المغزى وراء الدور الكبير الذى تأهلت لتقوم به دولة جنوب إفريقيا وبخاصة مبادرتها الخاصة برفع قضية إبادة بشرية ضد إسرائيل فى لاهاى أمام محكمة العدل الدولية، وهى القضية التى يمكن أن تجر فى ركابها دولا أخرى مشتبها فى تواطؤها مع إسرائيل أو مساعدتها بالمال والسلاح لتنفيذ عملية الإبادة البشرية فى فلسطين. واضح تماما لنا على الأقل أن النشاط المفاجئ والمستجد لأمريكا فى إفريقيا لا يحظى بأى درجة معتبرة من الاستحسان والثناء من جانب السياسيين والمصالح الاقتصادية فى أوروبا الحريصة أكثر من أى وقت مضى على المحافظة على ثروات إفريقيا من المواد الخام فى أيد أوروبية. غير معروف لنا على كل حال أن أوروبا «الاستعمارية» رحبت فى أى وقت بشراكة مع الولايات المتحدة فى إفريقيا تحديدا.
سادسا: أعرف أن أوروبا لم تكن، ولن تكون، سعيدة بوجود دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة. أقول هذا وأنا مثل كثير من المراقبين أتوقع عودته إلى البيت الأبيض فى الانتخابات القادمة ما لم يحدث حدث جلل من خارج العملية الانتخابية يمنع هذه العودة. لا أرى فى عودة ترامب عودة عظمة أمريكا. أخشى القول إننى أرى العكس لأسباب ليس أقلها شأنا خوف أوروبا من عودته كنصير لليمين الأوروبى، واحتمال متزايد القوة بانقسامات أشد وأعمق داخل الكيان الأمريكى، واحتمالات عديدة بفوضى ضاربة فى الشرق الأوسط.
• • •
تظل أوروبا هامة لنا فى العالم العربى بصفة خاصة والشرق الأوسط بصفة عامة، وما يحدث فيها ومن حولها هذه الأيام يستدعى من القائمين على شئونها التأمل العميق فى جميع الخيارات المطروحة على حاضرها ومستقبلها. يعتقد مفكرون أوروبيون حاجتهم الماسة هذه الأيام إلى مفكرين من نوع ووزن جيل المؤسسين الأوائل لمشروع التكامل الأوروبى. يرون أنه من الضرورى جدا الإسراع بلم الشمل، وبخاصة شمل قيادات الاتحاد الأوروبى. ضرورى أيضا، فى نظرهم، التوصل إلى تعايش ممكن مع روسيا وفى الوقت نفسه العمل على تعزيز مكانة وتماسك حلف الأطلسى قبل أن تمتد إليه يد ترامب وجماعته. يرون، وربما كانوا على حق، أن العالم فى حال فوضى وارتباك شديدين، وقد تستطيع أوروبا، أكثر من غيرها أو مع الصين، الإمساك بلجام الفوضى لوقف الانزلاق نحو حروب أخرى غير أوكرانيا وفلسطين.