ما بين الاحتكار واﻻستثمار فى الصحة

علاء غنام
علاء غنام

آخر تحديث: السبت 14 أبريل 2018 - 10:05 م بتوقيت القاهرة

برزت فى الآونة الأخيرة اتجاهات تتجه إلى احتكار بعض الخدمات الصحية من قبل كيانات مالية كبرى دولية وإقليمية بشراء عدد من المعامل الطبية والمستشفيات، ثم طرحها فى بورصة الأوراق المالية للتداول على أسهمها كشركات خدمية صحية، ما أثار العديد من التساؤﻻت حول هذه الممارسات ومدى جدواها فى غلق فجوة تمويل قائمة بالفعل فى القطاع الصحى العام حين عجزت الحكومة عن توفير الموارد المالية اللازمة لهذا المحور فى الموازنات العامة المتكررة (لم يزد الإنفاق العام عن الصحة على 5% فى السنوات الأخيرة).

كما أثيرت تساؤلات حول الأطر التشريعية التى تعتمد عليها هذه الكيانات المالية اﻻستثمارية الدولية فى عمليات الشراء والطرح وحول ماهية القيمة المضافة التى تحدثها هذه العمليات إلى الخدمات الصحية واقعيا؟

وفى نفس السياق طرح تساؤل حول مفهوم الاستثمار فى الصحة؟ وهل هو ما يحدث عبر هذه الكيانات؟ وهل هناك فارق بين اﻻستثمار فى العلاج والمرض والمضاربة فى البورصة على تلك الأسهم بهذه المؤسسات وبين اﻻستثمار الحقيقى فى الصحة بمعناها الشامل؟ وحول مدى تحكم هذه الكيانات بعد ذلك فى تسعير الخدمات الصحية خاصة عندما ينشأ نظام صحى جديد ومتكامل على أسس تأمينية شاملة يشترى الخدمة لحساب المواطنين المشتركين فى هذا النظام عبر اشتراكاتهم وضرائبهم؟

ذلك ما يحتم التعرض فى هذه القضية إلى عدة مفاهيم وضبطها وتحديدها بدقة مثل مفهوم اﻻحتكار، والذى يعرف علميا وعالميا باعتباره حالة تملك لحصة سوقية فى مؤسسات تمكنك من تحديد السعر، ولا تؤثر فيك المنافسة عندما تمتلك نسبة لا تقل عن 50% غالبا من حجم هذه الخدمات.

فهل هذا ما بدأ يحدث فعليا فى قطاعات كمصانع الدواء والمعامل الطبية والمستشفيات الخاصة الكبرى والمعروفة؟
كما يبرز أيضا مفهوم اﻻستثمار فى الصحة، والذى يعرف بأنه قيمة مضافة لأصول القطاع الصحى يتمثل فى إنشاء أو بناء كيانات جديدة فى مناطق بعينها تفتقد إلى هذه الخدمات وفق خطط استراتيجية صحية واضحة للدولة.

وفى مستويات معينة من الخدمة أو الشراكة مع كيانات قائمة بالفعل وفق ما تحدده خطط الدولة فى المناطق الأكثر حرمانا من الخدمة كالصعيد وريف مصر وفى مستويات الرعاية الأساسية والثانية فهل هذا ما يحدث؟

أم أن ما يحدث هو مضاربة مالية فى البورصة على أسهم دون قيمة مضافة، وإلى ماذا تؤدى هذه المضاربة على أسعار هذه الخدمات؟ وإمكانية أتاحتها للمواطنين فى ظل نظام صحى يخطو بصعوبة نحو محاولات إصلاحه تأمينيا.

فالمعروف أن الحق فى الصحة دستوريا يعنى فى أبسط مفاهيمه أنه إتاحة الخدمة ماليا وجغرافيا، فهل هذا النزوع اﻻحتكارى يحقق مفاهيم الاستثمار فى الصحة وإتاحة الخدمات لأغلب المواطنين البسطاء دون تكبيدهم عناء تحمل تكلفة هذه الخدمات؟

***

وفى تقرير حالة آخر منشور نبهت إليه بعض الجهات الرقابية إلى أن القطاع الصحى الخاص حتى الآن ﻻ يستحوذ إﻻ على 33% من جملة معامل التحاليل الطبية، وتظل النسبة الأكبر حتى الآن فى ملكية الدولة، حيث يصل عدد المعامل الإجمالى إلى قرابة 7500 معمل أغلبها معامل صغيرة ومتوسطة وداخل منشآت مملوكة للدولة ولكنها قد تفتقد إلى معايير الجودة.

فما الذى يزعج فى ذلك إذن؟ طالما أن العملية الأخيرة اقتصرت على دمج أكبر معملين فى البلاد فى كيان واحد ضخم حاصل على شهادات اعتماد دولية يحقق أكبر ضمان لجودة ما تقدمه هذه المعامل من خدمة بالأسعار التى تحددها هى! أيعد هذا استثمارا فى الصحة؟ وغلق فجوة التمويل الصحى أم شىء آخر؟

كما أشار التقرير أيضا إلى أن الدولة حتى الآن ما زالت تستحوذ على 85% من المستشفيات القائمة وفق أعداد الأسرة، فى حين ما يملكه القطاع الخاص ﻻ يزيد على 15% من المستشفيات وفق أعداد الأسرة، فما الذى يزعج فى ذلك؟

(إجمالى أعداد الأسرة 154000 سرير) ولكى تحتكر المستشفيات الخاصة يجب أن تمتلك قرابة 37000 سرير من الإجمالى، فهل شراء 20 مستشفى من قبل كيان دولى يقترب من اعتباره نزوعا احتكاريا فى الخدمة؟

ربما نعم مستقبلا، وذلك ما يجعلنا نحذر من تصاعد هذا النزوع بحجة أنه استثمار فى الرعاية الصحية، فالواقع أنه مجرد استحواذ ومضاربة مالية على الأسهم فى البورصة تساهم فى ارتفاع أسعار الخدمات، فيما يزيد عن قدرة المواطن المتوسط على شرائها، وربما تساهم فى حدوث مزيد من التضخم المالى فى القطاعات الصحية، ودون أن تترك قيمة مضافة إليها تغلق فجوة العدالة اﻻجتماعية الموجودة فى إمكانية إتاحة الخدمات لغالبية السكان جغرافيا وماليا.

وإذا تعرضنا لما هو مطروح فى البورصة حتى الآن من شركات دوائية ومستشفيات، سوف نجد أن قرابة 16 شركة وطنية لها شراكات مع مكون أجنبى متوسط وصغير لتحسين أدائها وهى فى التحليل اﻻقتصادى الأخير قد ﻻ تمثل قيمة مضافة للدخل القومى إجمالا.

***

وفى نفس السياق حاولت الدولة منذ عام 2000 مقاومة هذا النزوع اﻻحتكارى بقرارات وزارية من وزير الصحة (القرار رقم 300 لسنة 2000 بشأن عدم جواز اﻻعتداد لأى تصرف فى المستشفيات الخاصة أو مصانع الأدوية سواء بالبيع أو غيره إلا بعد الحصول على موافقة الوزارة، ولكن فى عام 2009 وفى عهد أحد الوزراء، صدر قراره رقم 18 لسنة 2009 بإلغاء العمل بالقرار رقم 300 لسنة 2000 ما فتح الباب لعمليات الاستحواذ على المستشفيات والمعامل وتشجيع ذلك النزوع اﻻحتكارى بحجة تشجيع الاستثمار الخارجى فى القطاع الصحى، وجرت مياه كثيرة فى النهر حتى إبريل 2014 عندما عاد وزير الصحة وقتها إلى تفعيل القرار رقم 300 لسنة 2000 مرة أخرى، وأصدر قرارا جديدا برقم 497 فى أغسطس 2014 يضمن حظر التصرف فى المستشفيات الخاصة ومصانع الأدوية بأى نوع من أنوع التصرفات القانونية إلا بعد الرجوع إلى الإدارة المنظمة لذلك بوزارة الصحة والحصول على موافقة كتابية بالأمر).

ما جعل البورصة تعترض على هذا القرار حيث أرسلت إلى مجلس الوزراء ما يفيد ضرورة عدم سريان هذا القرار 497 لسنة 2014 على ممارساتها، وطالبت أن يقتصر القرار على فحص المؤسسات الصحية المطروحة فى البورصة ومراجعة تراخيصها فقط للموافقة.

وهكذا استمرت بعض عمليات الاستحواذ والنزوع اﻻحتكارى والطرح فى البورصة بحجة اﻻستثمار فى الصحة ما يعكس غياب المفاهيم والسياسات الصحيحة لمعنى الاستثمار فى الصحة، والذى يؤكد ما نص عليه دستوريا وما استقرت عليه سياسات الدولة فعلا لاحترام وتنفيذ وكفالة الحق فى الصحة عبر قانونها الجديد للتأمين الصحى الشامل.

فهل تتضح الأمور وتنجلى الآن أمام صانعى القرار الصحى حول تشجيع الاستثمار الحقيقى فى القطاعات الصحية المختلفة لغلق فجواته التمويلية عبر خطط واضحة واستراتيجية توجه فيها الدولة المستثمر الأجنبى نحو مناطق الاحتياج وهل تضيف إلى تشريعاتها ما يحد من هذا النزوع اﻻحتكارى وفوضى السوق بالمضاربة والمساهمة فى ارتفاع أسعار الخدمات الصحية، هذا ما نريد التأكيد عليه والتحذير من مخاطر عدم اﻻلتزام به والنتائج المترتبة على ذلك.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved