عقود من الاضطراب

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 14 مايو 2015 - 9:45 ص بتوقيت القاهرة

ظاهرة تستحق الانتباه، هذا العدد الوفير من السياسيين والدبلوماسيين الغربيين الذين تحولوا فى مرحلة من حياتهم إلى لعب أدوار يستثمرون فيها علاقاتهم القديمة والرسمية بالمسئولين العرب. خير لا أحسدهم عليه ورزق لا أرغب فى حرمانهم منه. أما وقد استفحلت الظاهرة، وفاحت رائحة فضائح عديدة ترتبط بثمار هذه العلاقات، وبالأنشطة الزائفة التى مارسها بعضهم أو ادعى ممارستها، وبخيبات أمل الأصحاب الشرعيين للقضايا التى جاء هؤلاء السياسيون لخدمتها وتسويتها تسوية سلمية وعادلة، وجب علينا أن نتوقف قليلا، لنحكم بأنفسنا على قيمة العائد من وراء المكافآت السخيفة التى يحصل، وحصل عليها، هؤلاء الناس على امتداد سنوات طويلة، فى شكل أموال وصفقات، هى بالتأكيد من موازنات وأرصدة شعوب، أغلبها يعانى الفقر والجوع.

يختلف هذا النوع من «المستشرقين الجدد» عن أسلافهم من المستشرقين الأوائل فى أنهم أقل علما وخبرة ونزاهة، فضلا عن أن أكثر من أعرفه منهم لا يجيدون اللغة العربية ولم يكونوا يوما من عشاق ثقافة العرب وتقاليدهم. ليس سرا أن حافز أكثرهم الجشع ووسيلته النفاق والكذب. كان بعضهم حتى وقت قريب يتحملون مسئولية القرار فى حكومات بلادهم، ولم يقدموا خلال فترات ولايتهم ما يشير ولو من بعيد إلى أنهم حريصون على إقامة سلام حقيقى فى الشرق الأوسط، أو أنهم متعاطفون على أقل تقدير مع جوهر قضايا العرب وحقوق الفلسطينيين المشروعة، أو أبدوا استعدادا للدخول فى مواجهات مع قادة الحركة الصهيونية والعنصرية فى بلادهم للمساهمة فى رفع الظلم الواقع على بعض شعوب المنطقة.

•••

قد يكون جورج ميتشيل، الوسيط لمدة وجيزة فى الصراع العربى ــ الإسرائيلى، مختلفا بعض الشىء عن جمهرة «المستشرقين الجدد» الذين توافدوا على المنطقة من عديد الوظائف والمناصب فى دول الغرب عبر السنوات، بحجة أداء أدوار الوساطة وعرض الخبرة والمشورة وفشلوا فى كل شىء إلا فى شىء واحد، وهو العودة برصيد هائل من الأموال والمؤسسات الخيرية المعفاة من الضرائب ورصيد ليس أقل أهمية من العلاقات الشخصية.

جورج ميتشيل، بكتابه الجديد وعنوانه «المفاوض»، أثار عندى من جديد الرغبة فى البحث عن إجابات لأسئلة ترفض أن تهدأ أو تختفى. هو أيضا انضم إلى قائمة الباحثين عن صفقات وأعمال تخدم مصالحه المهنية كمحام والتجارية كرجل أعمال ووسيط، ولكنه مثل غيره من الذين سبقوه لا يشرح لنا، لماذا فشل؟ ولماذا أضاع وقتنا وبدد طاقاتنا؟ هو أيضا مثل الذين سبقوه لا يعبر عن ندم على ما لحق بالفلسطينيين من ظلم وما لحق بقضيتهم من تعقيد بسبب جرهم مع غيرهم من العرب إلى متاهات فى غابات «الاستشراق الجديد»، حيث الهدف تعظيم الثروة المادية وتحقيق أقصى مصلحة شخصية ممكنة مقابل جهود لا ترقى بأى حال إلى مستوى الأداء الشريف أو الإخلاص والصدق. هؤلاء مثل غيرهم فى قطاعات أخرى تصوروا أن المرحلة الراهنة قد تكون الأخيرة فى عمر النظام العربى كما عرفوه.

•••

أقل ما يمكن أن يقال فى كتاب ميتشيل إنه غنى بالحكايات والنوادر، فقير فى المعلومات، قوى فى التعبير عن آراء فى موضوعات متفرقة. توقفت مطولا عند فقرة لأنها كانت قوية وأيضا لأنها لاقت هوى فى نفسى. يقول ميتشيل إن نظاما جديدا سوف يقوم فى المنطقة، بما يعنى أن ميتشيل انضم إلى قائمة طويلة من المفكرين الغربيين الذين يعتقدون أن النظام العربى«القائم» ينهار، وأن نظاما إقليميا جديدا هو الآن فى طور التكوين. يختلف ميتشيل عن كثيرين غيره حين يعرب عن اعتقاده بأن سقوط النظام مرتبط بشكل ما بثورات الربيع التى، حسب رأيه، لم تصل بعد إلى نهايتها كما يعتقد بعض قادة الحكم فى العالم العربى. الثورات فى رأيه مستمرة، وإن كانت تمر فى إحدى أسوأ مراحلها، وهى مرحلة الاضطرابات. هذه المرحلة قد تمتد عقودا. الجديد فيما يقوله ميتشيل، ويقوله بالهمس بعض المفكرين العرب مراعاة لمعنويات الشعوب وحساسياتها، هو أن الاضطرابات سوف تستمر عقودا، وان الأمل ضعيف فى أن تهدأ الأحوال قريبا فى العالم العربى، أو تستقر الاستقرار نفسه الذى كان سببا فى نشوب ثورات الربيع.

•••

يثير هذا الرأى فى حد ذاته أسئلة كثيرة، ربما كان أهمها على الإطلاق هو السؤال عن نمط العلاقات العربية ــ العربية، ونوعية الجيوش العربية وأحجامها وخطط واستراتيجيات الأمن ونمط التحالفات، وغيرها من الترتيبات التى يمكن أن تنشأ أو توجد فى ظل «نظام إقليمى شديد الاضطراب والتوتر لعقود عديدة». نحن بالفعل أمام معضلة نظرية، تبدو لى فى شكلها الخارجى عويصة ودقيقة، وهى أن الاضطراب السائد حاليا فى عدد من الدول العربية سواء كان من النوع المتفجر والمعلن أو كان من أنواع كامنة ومستترة أو متفجرة تحت رماد لم يبرد، لابد أن يفرز آليات وأفكارا خاصة به ومختلفة كل الاختلاف عن آليات وأفكار سائدة حتى اليوم وتهيمن على الحركة السياسية فى الشرق الأوسط.

•••

سياسيون ووسطاء وخبراء ومنهم ميتشيل وهيلارى كلينتون المرشحة لمنصب رئاسة الجمهورية الأمريكية وطونى بلير الرئيس الأسبق لوزراء المملكة المتحدة وهو الشريك الأسوأ فى تدمير العراق والمستشرق الجديد الأسوأ سمعة، ربما يعتقدون أن «الربيع العربى «لا يزال مقيما فى صورة أو أخرى، بل لعله عاد يهدد من قريب جدا الأوضاع القائمة فى العالم العربى وفى خارجه باكتساح جديد، إذا لم تستجب النخب الحاكمة لمطالب الثورات العربية فى الديمقراطية والحرية والكرامة. هؤلاء قد لا تكون فى مصلحتهم تحديث أنظمة الحكم والقضاء على الفساد وحماية حرية التعبير، أكثرهم حسبما أعلم، لم يحذر فى الوقت المناسب المسئولين الذين يغدقون عليهم بكرمهم المعهود من أن الثورة قادمة. ولم أسمع أخيرا أن أحدا منهم استفاق من هول الربيع وما فعله بالنظام العربى.
كما استفاق ميتشيل، فراح يدق الأجراس ليعلن أن نظاما إقليميا يسقط وآخر سوف يقوم. وها هو يحذر من أن المرحلة بين سقوط نظام إقليمى وقيام آخر سوف تشهد اضطرابا هائلا، لن يخفف من أهواله ويقلل من ضحاياه إلا الاستجابة المبكرة، ولو متدرجة ولكن مخلصة، لمطالب ثوار الربيع ومطالب استجدت مع تدهور أحوال البلاد فى أوقات حروب أهلية وطائفية وسياسية، وفى أوقات غابت فيها إرادة عربية واحدة تقرر فى شأن حياة ومستقبل النظام العربى، وفى أوقات غابت عنه الطاقة اللازمة لتسيير هذا النظام، وغابت عقيدة كانت توجه مساره وتحدد هدفه وتنير طريقه.

اقتباس

إن الاضطرابات سوف تستمر عقودا، وإن الأمل ضعيف فى أن تهدأ الأحوال قريبا فى العالم العربى، أو تستقر الاستقرار نفسه الذى كان سببا فى نشوب ثورات الربيع.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved