صحوة شباب

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 14 يونيو 2017 - 8:40 م بتوقيت القاهرة

سقط حلم السيدة تيريزا ماى أن تحتل ذات يوم المكانة التى كانت تتمتع بها السيدة مارجريت تاتشر. سقط يوم أخذت قرارها غير المبرر على الإطلاق؛ دعوة الناخبين فى المملكة المتحدة لانتخابات برلمانية مبكرة. كثيرون وصفوا القرار بأنه قرار غبى. آخرون كانوا أقل قسوة وأكثر التزاما بالتقاليد الإنجليزية فاتهموا صاحبته بسوء التقدير. كان واضحا للمراقبين جميعا أن السيدة ماى تتمتع كرئيس حكومة بأغلبية برلمانية أقل ما يقال عنها إنها مريحة. كان المعروف أيضا أن هذه الحكومة تستطيع أن تبقى فى
الحكم لسنوات تصل إلى ثلاث لا يهددها سوى طارئ أو خطأ جسيم. لذلك كان ولا يزال غير مفهوم قرارها الدعوة لانتخابات مبكرة.
أشترك مع آخرين فى الاعتقاد أن السيدة تيريزا ما كانت لتأخذ مثل هذا القرار لو كان لديها الثقة الكافية فى النفس التى تؤهلها لقيادة مفاوضات عصيبة مع قادة دول الاتحاد الأوروبى والرئاسة الأوروبية. يختلف هذا الاعتقاد مع رأى سائد بأن السيدة ماى اتخذت القرار بناء على ثقة فى النفس مبالغ فيها وليس بسبب قلة ثقة. فى الواقع لا خلاف كبيرا بين هذا الاعتقاد وذاك الرأى. نحن نتحدث عن ثقة بالنفس فى إطار مفاوضات خارجية سوف تجرى مع الاتحاد الأوروبى، الآخرون يتحدثون عن ثقة بالنفس حيال إجراء انتخابات قومية تحصل بنتيجتها على إقرار بزعامتها المطلقة داخل حزب المحافظين المنقسم أصلا فى داخله وعلى تفويض بالاستمرار فيما تعتقد أنه الأجندة الأقوى للإصلاح الاقتصادى.
اعتمدت السيدة ماى فى اتخاذها القرار على مشورات مساعدين من غير ذوى الخبرة فى الحزب والحكومة. اعتمدت أيضا على علاقتها القوية بالرئيس دونالد ترامب وعلى ما اعتقدت أنه الأساس الصلب الذى تقوم عليه العلاقات الأمريكية البريطانية. تظن السيدة ماى مثل عدد من الأقران فى الطبقة الحاكمة أن هذا الأساس هو العنصر الجوهرى وراء استمرار بريطانيا قوة كبرى فاعلة فى النظام الدولى. رددت أوساط سياسية فى لندن اعتقادا ساد لبعض الوقت أثناء الحملة الانتخابية، اعتقاد يمنح رحلتها إلى دول الخليج الفضل فى تدعيم ثقة السيدة ماى فى أصدقاء يدعمون حكومتها الجديدة بالاستثمارات فور تشكيلها ويشدون أزرها أثناء الحملة.
•••
لم تدرك السيدة ماى على ما يبدو مدى عمق التحول فى المجتمع البريطانى، مثله مثل التحول فى معظم مجتمعات أوروبا. الواقع الذى أفرزته الأزمة الاقتصادية فى دول الغرب كشف عن هزال أصاب النخب الحاكمة فى هذه الدول وعن رغبة عارمة لدى شعوبها فى ضرورة التغيير. انكشف فى الوقت نفسه حال تذمر عام واحتجاج فى صور عديدة بين الشباب. يتردد فى الكتابات الأكاديمية وفيما تنشره الصحف المستنيرة الحديث عن الهيمنة المتزايدة على تصرفات الشباب من جانب ظاهرة اجتماعية ناشئة ولكن قوية. إنها الميل المتزايد بين الشباب نحو الاهتمام بقضايا «بعد مادية» مثل العلاقات المثلية والزواج المثلى والتعامل مع المهاجرين والمتشددين قوميا والمتطرفين دينيا. تزداد العلاقات الجيلية توترا وتعقيدا مع استمرار التلكؤ فى حل مشكلات شبابية متعددة، مثل مشكلة عدم قدرة الأغلبية العظمى من الخريجات والخريجين تسديد قروض تلقوها خلال مرحلة التعليم الجامعى. منها أيضا، ولعلها من أخطر القضايا، صرف النظر فى معظم الاقتصادات الأوروبية عن تعيين الشباب فى وظائف دائمة أو طويلة المدة. ولا شك أن المشكلة تزداد حدة فى بريطانيا بسبب سياسة التقشف التى تنتهجها حكومة حزب المحافظين الذى ترأسه تيريزا ماى. الغريب فى الأمر أن السيدة ماى اعتمدت على أن الشباب لن يشاركوا كعادتهم فأقدمت على إجراء انتخابات لعب فيها الشباب الدور الحاسم فى تصعيد حزب العمال وإعادته إلى مواقع الصدارة.
•••
عاد النقاش حاميا حول أزمة البريكسيت فى غمرة اشتعال الخلاف مرة اخرى فور ظهور نتائج الانتخابات. عاد من يلقى بالمسئولية على طبقة حاكمة «هالكة» والشعب برىء منها. هناك من يتهم قيادات فى النخبة السياسية البريطانية بأنها لم تدرس بالاخلاص الواجب أو العناية اللازمة مصالح بريطانيا الحقيقية فى البقاء عضوا فى الاتحاد الأوروبى أم الخروج منه. «خرجوا عن وقارهم وارتدوا ثيابا رثة وراحوا يتحدثون باسم الشعب عن رغبته فى الخروج من أوروبا». قيلت هذه العبارة فى وصف القيادات السياسية التى انبهرت أو انزعجت بظاهرة الشعوبية التى بدت كاسحة فى أمريكا وأوروبا، فقلدوها ورفعوا شعار البريكسيت وأقاموا حوله المهرجانات الاعلامية وهللوا ورقصوا حتى حصلوا عليه، ولم يكونوا فى حقيقة الأمر متحمسين ولا مقدرين الأبعاد الخطيرة لمثل هذا القرار. أستطيع أن أتفهم المنطق وراء هكذا ادعاء وأنا أرى السيدة ماى المتمتعة والمستمتعة بأغلبية برلمانية مريحة لسنوات ثلاث قادمة تقدم على إجراء انتخابات تأتى لها ببرلمان موحد خلفها وشعب موحد. كلاهما يضمن لها أن لا مناقشة من معارضة أو قوى ضغط خلال التفاوض، لا رأى آخر. لسان حالها يقول «أنا وحدى، أو أنا وحزبى نقود، ولا أحد فى بريطانيا أو خارجها يتدخل. الشعب كله معى». تمكن الطمع وجشع السلطة من تيريزا ماى. أرادت كل السلطة ولا أقل من الكل فخسرتها وفقدت بريطانيا مع خسارتها معظم القدرة على التفاوض من موقع قوة.
•••
أسأل ويسأل أصدقاء يتابعون ما أتابع. نسأل لماذا لم تتدخل روسيا فى الانتخابات البريطانية كما تدخلت فى الولايات المتحدة وفرنسا، وكما تدخلت من قبل فى ألمانيا. القائمة طويلة. تدخلت روسيا فى ألمانيا حين اقتحمت فى عام 2015 أجهزة الكومبيوتر فى البوندشتاج. ثم عادت فتدخلت فيما عرف وقتها «يناير 2016» بقضية ليزا. حينها شنت جهات روسية حملة معلومات مزيفة عن فتاة ادعت أن عربا اغتصبوها فى برلين. المعروف أن الألمان تعمدوا تهدئة الرد من جانبهم على التدخلين لأسباب تتعلق بمجمل علاقة الغرب بروسيا وبخاصة منذ عهد بقيادة خلافاته مع روسيا إلى السيدة ميركيل.
ثم تدخلت روسيا فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية حين اختطفت جهات فيها ونشرت رسائل الكترونية ووثائق من اللجنة القومية الديموقراطية فى يوليو 2016، وكان الهدف محل الاتهام هو تسهيل مهمة دونالد ترامب الوصول إلى البيت الأبيض. وفى فرنسا، دعمت روسيا علانية السيدة مارين لوبين وأمدتها بالقروض واختطفت جهات روسية رسائل الكترونية وشنت حملات اعلامية ضد المرشح الشاب ماكرون. يحسب للرئيس الفرنسى أنه واجه الرئيس بوتين صراحة فى باريس ومتهما وكالة أنباء سبوتنيك وتلفزيون روسيا اليوم. وقتها لم يكن رد الرئيس الروسى أمام ملايين المشاهدين مقنعا.
لا يخفى أن أغلب زعماء أوروبا الغربية مقتنعون بأن روسيا تشن حربا سياسية شرسة ضد دول الغرب بهدف زرع بذور الشك فى نجاعة الديموقراطية وفى مؤسساتها وفى العلاقات بين الدول الديموقراطية. بعضنا يعرف من صلاته بأصدقاء من الروس أن زعماء روسيا مصممون على الاستمرار فى هذه الحرب باعتبارها حقا لروسيا بعد عقود عديدة من الحرب الباردة وفى مواجهة خطط توسع وعمليت تخريب لا تتوقف من جانب حلف الناتو.
نعود إلى السؤال الذى لم تقابله حتى الآن إجابة شافية، لماذا لم تتعرض المملكة المتحدة لهجمات روسية كتلك التى تعرضت لها دول أوروبية أخرى؟
•••
أثار اهتمامى، ولا شك اهتمام آخرين، خلال الحملة الانتخابية البرلمانية فى بريطانيا الجولة التى قام بها السيناتور بيرنى ساندرز، المرشح السابق لمنصب رئاسة الجمهورية الأمريكية. بعثت الجولة اهتمامى، وربما شجعت تربصى، لأى بادرة تدل على محاولة من جانب روسيا للتدخل فى هذه الانتخابات. قد يرفض كثيرون اعتبار مثل هذا النشاط من سياسى أمريكى فى وقت حساس تدخلا بحجة أن من حق الديموقراطيين فى كل مكان فى الغرب التدخل لصالح الديموقراطية. كان اهتمامى فى محله. لا شك عندى الآن فى أن رحلات ساندرز وغيره من «اليساريين» الأمريكيين إلى بريطانيا نجحت فى حشد نسبة غير متوقعة من الشباب وراء قضايا مشتركة للشباب فى الدولتين، بل وفى عدد من الدول الرأسمالية وبخاصة الغربية. عبرت هذه الرحلات والحشود الشبابية، كما عبرت نتيجة الانتخابات وبحق، عن عمق الأزمة فى قلب النظام الرأسمالى، وعن تدهور مكانة الطبقات الحاكمة فى الغرب وفشل سياساتها الاجتماعية والاقتصادية.
•••
لن تستطيع السيدة تيريزا ماى العودة إلى الوراء، أجندتها طالت وتعقدت. أمامها صحوة شبابية لن يكون سهلا اخمادها. وأمامها مجتمع رافض للتقشف ومحتج بشدة على تدهور مستوى جميع الخدمات بدون استثناء، أمامها أيضا نسبة أكبر من رافضى البريكسيت، والمستفيدين من الوحدة الأوروبية ومن المدافعين عن فكر إن كان لا بد من البريكسيت فليكن ناعما.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved