الفلاح يدفع الفاتورة وحده

زياد بهاء الدين
زياد بهاء الدين

آخر تحديث: الثلاثاء 14 أغسطس 2012 - 10:25 ص بتوقيت القاهرة

برغم كل التغييرات الكبرى التى حدثت فى مصر خلال العام ونصف العام الماضيين، إلا أن ملايين الناس تجد نفسها خارج المعادلة تماما ومستبعدة من دائرة الاهتمام الرسمى والسياسى. على رأس هؤلاء الفلاحون والمزارعون وما يخصهم من القضايا الاقتصادية والاجتماعية التى لم يتم تناولها أو حتى التطرق إليها، بل إن الحديث عن مشاكل الريف وعن نقص الوقود والسماد كان ــ ولا يزال ــ يعتبر انحرافا عن القضايا السياسية الأكثر أهمية (الجلسة التى خصصها مجلس الشعب قبل حله لمناقشة نقص الأسمدة الزراعية تعرضت للمقاطعة والسخرية من بعض الأحزاب والقوى السياسية باعتبارها أمورا تافهة لا تليق ببرلمان الثورة). والنتيجة أن الفلاح المصرى يجد نفسه اليوم خارج دائرة اهتمام السياسيين، ومع ذلك مطلوب منه أن يستمر فى التضحية ودفع الفاتورة كاملة دون أن يستفيد على أى نحو.

 

مصر كلها عانت ولا تزال تعانى من الانفلات الأمنى، ولكن فى الريف عموما، وفى الصعيد على وجه الخصوص، فإن هذا الانفلات له وقع آخر: السلاح انتشر بشكل غير مسبوق كما لو كان من متطلبات المنزل العصرى كالغسالة والثلاجة (وبأسعار لا تزيد كثيرا)، ونزاعات الثأر القديمة عادت كلها للاستيقاظ، والبناء على الأرض الزراعية أصبح بلا قيد، والأطفال يمشون فى شوارع القرى مدججين بالسلاح ومتاجرين بالمخدرات علنا، والفتنة الطائفية حينما تشتعل فى الريف فإنها تترك آثارا وجراحا عميقة لا تزول.

 

ومصر كلها تعرضت لأزمات فى الوقود والسولار والبنزين والبوتاجاز، ولكن فى القرى والنجوع فإن هذا لا يعنى توقف أجهزة التكييف أو الحرمان من مشاهدة مباريات الكرة، بل يعنى توقف الجرارات ومكن الحصاد والدرس والطحن، وبالتالى احتراق المحاصيل على الأرض وخراب بيوت الفلاحين وأسرهم.

 

ومصر كلها تعرضت لركود اقتصادى وتزايد فى البطالة، ولكن فى المجتمع الريفى فإن البطالة بين الشباب تعنى عودة مئات الآلاف من القرى والمنتجعات السياحية فى البحر الأحمر والغردقة، ومن مواقع البناء فى السادس من أكتوبر والعاشر من رمضان، وتسريح العمالة المؤقتة فى الشركات التى يكون شباب الفلاحين أول من يتم التضحية بهم.

 

ثم يأتى بنك الائتمان والتنمية الزراعية ليقضى على ما تبقى من المقاومة، فيرفع الفوائد والعمولات والمصاريف الإدارية، ولا يعطى الفلاح إلا ربع حاجته من السماد (ويتركه لتدبير باقى احتياجه من السوق السوداء بما يزيد على ضعف السعر) ويستمر فى جدولة الديون لإخفاء حقيقة التعثر، ويهدد الناس بالحبس إذا تخلفوا عن السداد، ويلزم المقترضين بأن تضمنهم عائلاتهم وزوجاتهم، ويوقع بالفلاح فى مصيدة الديون التى يجد نفسه يقضى عمره للفكاك منها ويصبح كل أمله أن يأتى اليوم الذى لا يضطر لدخول مبنى البنك مرة أخرى.

 

هذه ليست سوى بعض مظاهر الانحياز الصارخ فى المجتمع ضد المجتمع الريفى وضد الفلاح بل وضد عملية الإنتاج الزراعى كلها. فإذا أمسكت بورقة وقلم وجلست مع مزارع لحساب عائد الفدان المزروع قمحا أو شعيرا أو ذرة، بعد خصم كل المصاريف الظاهرة والمستترة، فستجد أن هذا العائد لا يتجاوز فى السنة خمسمائة أو ألف جنيه (وفى الكثير من الأحيان يكون بالخسارة) دون الأخذ فى الاعتبار مشقة المزارع وشقائه فى الحقل طوال العام. ولكن يظل الفلاح مصرا على هذه الزراعة لأنها تقدم له غذاء مضمونا لمنزله ومصدرا لعلف المواشى، ومجالا لعمل الأبناء، وسببا للشعور بالإنسانية والكرامة.

 

أما على الجانب المقابل ــ جانب المزايا والحقوق ــ فلننظر إلى ما استفاد به الفلاح خلال المرحلة الانتقالية، والإجابة لا شىء، صفر. فبينما زادت المرتبات الحكومية والخاصة، وأضيفت علاوات وحوافز لكل من طالب بها من أصحاب الوظائف أو الأعمال المنظمة، وبينما استجابت الدولة لكثير من المطالب المشروعة وغير المشروعة، وبينما صار قطع الطريق ومحاصرة رئيس مجلس الإدارة فى مكتبه وسيلة مضمونة لجذب انتباه المسئولين، فإن الفلاح المصرى ظل يعمل صابرا، يزرع ما نأكله، وما نلبسه، وما يستهلكه المجتمع كله، يسلمه للدولة أو لكبار التجار بأسعار بخسة، ويتحمل واقعيا فاتورة دعم المجتمع، ولا يخطر على باله أن يخرج معتصما أو متظاهرا لأن واجبه تجاه الحقل والزرع يأتى أولا. وفى ظل غياب نقابات فلاحية أو جمعيات أو اتحادات تدافع بشكل مؤثر عن حقوق المزارعين، فإن هذه الفئة الاجتماعية، التى لا يقل عدد أفرادها عن ثلث المجتمع على أقل تقدير، لا تجد لنفسها تمثيلا سياسيا فاعلا ولا اهتماما من الأحزاب ولا القوى السياسية المشغولة بالإعلام وبالنشاط القاهرى وحده.

 

هذا الانحياز ليس جديدا، بل ظاهرة عميقة فى المجتمع جعلت الفلاح المصرى يدعم الاقتصاد آلاف السنوات، ويبنى الأهرامات، ويحفر قناة السويس، ويقدم شهداء الحروب فى الصفوف الأولى، ويعمر المدن الجديدة، ويشق الطرق، ويكون الركن الداعم للمجتمع، ولا يجد سوى تجاهل وتمييز وانحياز ضد كل ما هو ريفى، تمييز

 

فى الموارد، وفى الخدمات، وفى البنية التحتية، وفى الأمن، وفى التقدير.

 

لا تعتمدوا على صبر وأخلاق الفلاحين فى أن يظلوا خانعين وساكتين للأبد. فالفلاح المصرى بقدر صبره وجلده وقدرته الأسطورية على الاحتمال، فإنه لن يسكت إلى الأبد ومن حقه أن يطلب الانصاف والعدالة والنصيب العادل من الاهتمام والموارد والانفاق العام. نحن فى مجتمع يتغير ويتطور وتسوده صراعات سياسية واجتماعية على كل الأصعدة، وقد حان الوقت لكى يكون للفلاح والمزارع صوت مسموع، ليس بطريقة الخمسين فى المائة عمال وفلاحين، بل عن طريق مؤسسات تمثله وأحزاب وقوى سياسية تهتم بشؤونه وتدافع عنه وتعيد النظر فى المنظومة الاقتصادية الظالمة التى تحيط بالمجتمع الزراعى. هذا المقال ليس مجرد صرخة فى الفراغ، ولكنه دعوة لفتح الملف الزراعى بأكمله والسياسة الزراعية، بما فى ذلك استصلاح وتوزيع الأراضى الجديدة، وتوفير مياه الرى، وإعادة دور الإرشاد الزراعى، وإنتاج وتوزيع الأسمدة، وتسعير المحاصيل، وتشجيع التصنيع الغذائى، وتوفير التمويل المناسب للفلاحين، ودعم الإنتاج الزراعى. هذا ملف بحاجة لأن يصبح فى مقدمة أولويات الأحزاب والقوى السياسية لأن الفلاح المصرى يستحق هذا الاهتمام، ولأن مستقبل الوطن يعتمد عليه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved