تجربة الحزب الواحد وتدمير الأوطان

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 14 أغسطس 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

مؤكد أن الأغلبية الساحقة من العرب فى مختلف أقطارهم مشرقا ومغربا لم تستقبل بالترحيب والتهليل اندفاع الإخوان المسلمين فى مصر إلى احتكار السلطة واستبعاد مختلف القوى السياسية والشبابية خاصة عن المشاركة فيها بل والتورط فى معاداتها، حرصا على الانفراد بحكم الدولة العربية الأكبر «المرجعية الشرعية» للقرار العربى.

ذلك أن العرب قد عاشوا تجارب مريرة لحكم الحزب الواحد أفقدتهم بعض أقوى الدول العربية وأغناها وتسببت فى كوارث قومية أهمها وأخطرها التمكين للعدو الإسرائيلى وللهيمنة الأجنبية على المنطقة، مشرقا ومغربا.

أخطر هذه التجارب، وبعضها لم تنته مآسيها، تلك التى ذهبت بالعراق تحت حكم الحزب الواحد (البعث العربى الاشتراكى) لصاحبه صدام حسين، كما كانوا يتندرون فى ارض الرافدين... وقد تورط ذلك الحكم حامل الشعار الحزبى (وحدة، حرية، اشتراكية) فى حرب مديدة (لسبع سنوات) ضد الثورة الإسلامية فى إيران، فاستنزف جيش العراق الذى كان العرب ينظرون إليه بأمل ويعتبرونه اخطر مصادر قوتهم فى مواجهة العدو الإسرائيلى.

ثم إن صدام حسين قد ورط العراق وجيشه، ودائما تحت شعار الحزب القائد (أى البعث)، فى غزو الكويت، وهى «العملية الانتحارية» التى ذهبت بالعراق كدولة وفككت وحدة شعبه وشردت الملايين من أبنائه فى أربع رياح الأرض، ومكنت للاحتلال الامريكى الذى نهب مصادرة الثروة وصولا إلى المتحف والمكتبات بكتبها الخطيرة حافظة التاريخ.

أما التجربة المريرة الثانية والتى لا يزال العرب يعيشون تحت وطأتها فتلك التى تتوالى فصولها المأساوية فى سوريا التى يحكمها ـ نظريا ـ حزب البعث مموها سيطرته «النظرية» بجبهة وطنية تقدمية تضم بعض الأحزاب التى كل رصيدها أسماؤها ذات الرنين التاريخى، والتى يستخدم « الرئيس القائد» وسمعتها الطيبة لطمس واقع التفرد بالسلطة.

ومع أن الكل يعرف أن الحزب إطار نظرى للنظام يدفع عنه تهمة تفرد الرئيس ( والمقربين منه) بالسلطة، إلا أن فرض الانتساب إليه للوصول إلى أى منصب، بل إلى أية وظيفة بسيطة فى الدولة تجعله ـ فى الشكل ـ وكأنه الحاكم.. أما الجيش فمغلق على أعضائه المميزين، بحسب قربهم أو بعدهم عن مركز القرار.

ومن قبل سوريا وبعدها العراق كانت هناك تجربة تونس مع الحزب الدستورى الذى قاده الحبيب بورقيبة خلال مرحلة النضال ضد الاستعمار الفرنسى، ثم تولى الحكم باسمه ومن موقع الأمين العام ( الأبدى)، وظل يحكم حتى بعدما هدّه المرض وأفقده ذاكرته والقدرة على التركيز بعد ثلاثين عاما أو يزيد فى السلطة.

●●●

ومع أن التاريخ يحفظ لهذه الأحزاب دورها التاريخى فى نضال شعوبها إلا أن الأنظمة التى حكمت باسمها كانت، على وجه العموم تموه حكم «الرجل الواحد»... لقد ذهبت تجربة الحزب الواحد الذى غالبا ما انتهى إلى حكم الرجل الواحد بثلاثة بلدان عربية ذات أهمية تاريخية وذات تجربة سياسية غنية.

يمكن إضافة الجزائر إلى هذه التجارب، برغم أن جبهة التحرير الوطنى لها تاريخها الذى لا يمكن إغفاله فى تحرير الأرض والإرادة من استعمار استيطانى فرنسى استطال لمائة وخمسين سنة... لكن الجبهة التى كانت تمثل قيادة الثورة خلال المواجهة المسلحة مع الاستعمار الفرنسى تفسخت بعد تحرير البلاد والسيطرة على الحكم، وسرعان ما أخلت موقعها فى السلطة للجيش الذى لم يتردد فى خلع الرئيس الأول المنتخب وأحد أبطال حرب التحرير، المجاهد الراحل احمد بن بله، ليتولى احد قيادييه البارزين، الراحل هوارى بومدين منصب الرئاسة حتى وفاته.. وما زال الجيش هو الحاكم حتى اليوم وان موه سيطرته على القرار بالحزب الذى فقد دوره وصار مجرد واجهة تموه سيطرة الجنرالات على مرافق الدولة كافة بالمخابرات.

نعود إلى مصر وتجربة الإخوان المسلمين فى الانفراد بالحكم.

يبدو أن الإخوان، وهم أصحاب تجربة عريضة فى العمل السياسى، فوق الأرض وتحتها على وجه الخصوص، قد استعجلوا أكثر مما يجب، وتجاهلوا القوة الشعبية الاساس، التى بادرت فنزلت إلى الميدان قبلهم فى 25 يناير 2011، واستمرت فيه لمدة عام ونصف العام، قبل أن تجىء المصادفة التاريخية التى رفعت الإخوان إلى سدة السلطة فى مصر.

ولقد تبين أن تنظيم الإخوان كان يملك خطته للهيمنة على الحكم، بمفاصله كافة، مع تجاهل من سبقه إلى الميدان، ومن صمد فيه حتى إسقاط حكم حسنى مبارك، بل ومارس الخديعة مع « الشركاء» بل « الرواد» فى المواجهة وفى تقديم الشهداء وفى كشف المجلس الأعلى للقوات المسلحة ومناوراته بهدف البقاء فى السلطة لأطول مدة ممكنة.

ومن أسف ايضا أن هذا التنظيم الشعبى العريق قد أعماه الغرض فاندفع متعجلا، ونسى أن تاريخه ضده، وان الثورة الشعبية نادرة المثال التى انخرط فيها الشعب المصرى بكل قواه السياسية الشبابية، قد اسقطت ــ منذ اللحظة الأولى ــ الشعارات الطائفية وتجارها، رافضا حكم العسكر مؤكدة حق القوى السياسية والنقابية والشبابية فى المشاركة فى القرار وهم صناع الثورة وحماتها.. لقد تجاهل الإخوان أن هذه الثورة لا يمكن أن يحتكرها طرف واحد، كائنا ما كان تاريخه، وكائنة ما كانت خبراته فى اللعبة الانتخابية، وفى شراء الضمائر والأصوات.

بديهى أن الوقت قد فات على استعراض الفرص التى أضاعها الإخوان وأهدروها بغير مبرر للطلب من القوى ذات الدور الأبرز فى الميدان أن تشارك فى الحكم فتحميهم من أنفسهم.

●●●

لقد تجاهل الإخوان أن الثورة كانت أعظم من أن ينجزها تنظيمهم العريق والذى يحيط به كثير من الغموض ويتناوله الكثير من اللغط حول قياداته السرية، وعلاقته بالتنظيم العالمى للإخوان المعروف ــ المجهول، بمصادر تمويله غير المعروفة، وشبكة علاقاته الدولية، لا سيما مع تركيا وباكستان.. ومن خلفهما.

كذلك تجاهل الإخوان حقيقة بسيطة وهى أنهم لا يمثلون مصر بالتسعين مليونا من أبنائها، وان واقع أنهم التنظيم الشعبى الأعرض، بأعضائه ومناصريه، لا يعنى أن هذا التنظيم يختصر مصر بقواها الحية، أحزابا وتنظيمات وهيئات مع الأخذ بالاعتبار الدور الريادى العظيم الذى لعبه شباب مصر، من خارج التنظيمات جميعا، والذى كان العنصر الحاسم فى التغيير الثورى الذى أنجزه الميدان.

ولقد تجاهل الإخوان واقعة محددة: أن الرجل الذى أوصلته المصادفات إلى الرئاسة قد انتخبه ــ بالاضطرار وليس بالانضباط الحزبى ــ أكثر من نصف الذين اقترعوا له مرغمين، منعا لوصول المرفوض منهم جميعا إلى سدة الحكم.

وكان على الإخوان وقد فازوا بما يتجاوز أحلامهم أن يردوا الفضل لأصحاب الفضل، وان يتواضعوا فيشكروا الشعب الذى شرفهم بالرئاسة الأولى ويدعو قواه الحية للمشاركة فى حكم المرحلة الصعبة، بل القاسية، التى كان ضروريا أن تتحمل المسئولية عن مسارها جميع الفئات التى شاركت فى الثورة، وكل أصحاب الكفاءات والخبرات «وهى بعض مصادر غنى مصر».

لكن الإخوان الذين ربحوا بأكثر مما يستحقون قد ضيعوا وفى فترة زمنية قياسية بقصرها الفرصة التاريخية التى أتيحت لهم لكى يشاركوا فى حكم مصر بجبهة وطنية عريضة تمثل كل القوى الجديدة فيها، بحيث تختصر الزمن المطلوب لعودة مصر إلى موقعها الطبيعى فى قيادة أمتها العربية وفى دورها الريادى الذى تستحقه بجدارة فى محيطها.

ومن أسف فإن الإخوان الذين لم يعرفوا كيف يربحون فيستعيدون اعتبار الشعب المصرى، وعبره الأمة العربية جميعا، يتصرفون الآن وكأنهم لا يعرفون - كذلك- كيف يحددون خسارتهم الفادحة لاستنقاذ ما يمكن إنقاذه من جدارتهم بموقع الحزب الأوسع جماهيرية وان كانت التجربة المرة أثبتت انه الأعظم استهانة بإرادة الشعب.

لقد أساء هذا التنظيم قراءة ضمير الشعب المصرى، وما زال يتصرف بعقلية مرحلة العمل السرى، وبمنهج «تمسكن حتى تتمكن» فإذا ما تمكنت فاندفع إلى إلغاء الجميع لكى تحكم منفردا ولو أدى التفرد إلى تدمير مصر.

وليس حكم مصر لعبة قمار: تربح بضربة واحدة كل شىء او تخسر كل شىء.

ومازالت الفرصة متاحة أمام الإخوان لتحديد خسارتهم بعدما ضاعوا وهم يكادون يضيعون كل ما كان بين أيديهم.

وهى فرصة لاستنقاذ مصر من حكم التنظيم الذى يصر على أن يبقى فى العتم، حتى وقد رفعته المقادير إلى المنصب المتوهج ضياء.

 

رئيس تحرير جريدة «السفير» اللبنانية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved