الوطنية ليست تفويضا لأحد

طارق فهمي
طارق فهمي

آخر تحديث: الأحد 14 أغسطس 2016 - 9:35 م بتوقيت القاهرة

- التطبيع.. تحول فى الرؤية وليس فى المقاربة
انبرت عدة أقلام من مختلف التيارات السياسية، للرد على مقال التطبيع والسلام المصرى الجديد مع إسرائيل، والذى نشر فى جريدة «الشروق»، حيث اعتبره البعض تسليما بوجود إسرائيل فى المنطقة، وأن مصر لا تملك البديل وأننا نطالب بالشراكة السياسية والاستراتيجية الكاملة وهذا غير صحيح، واعتبره البعض الآخر اختبارا من قبل أجهزة الدولة، لقناعة بعض الكتاب تجاه إسرائيل، ووصفه البعض بأنه تفكير خارج الصندوق لحسابات محددة، وأفاض البعض بالتذكير بالخبرة الفاشلة للرئيس السادات، وطموحاته للمصريين بالرخاء بعد السلام مع الآخر.

ما كان الهدف هذا أبدا، فنحن لا نختبر أحدا ولا نكتب من فراغ وإنما عن تجربة كاملة وتراكم خبرات طويلة تصل لأكثر من 25 عاما فى دائرة الصراع العربى الإسرائيلى، ومن أجل وضع استراتيجية مقترحة للدولة المصرية، خاصة أننى أزعم أننى من جيل لا يرى فى هذا الكيان سوى كيان فى الإقليم، وليست دولة كبرى يمكن أن ترتمى مصر فى أحضانها كما يتصور البعض، وهو ما ختمت به وسلمت بمضمونه فى المقال السابق، وذكرت بأنه ليس مطلوبا من هذه القوى الرافضة الذهاب إلى سلام دافئ مع إسرائيل ولو بعد ألف عام فهذا قرار شعبى، وليس قرار رسمى يمكن أن يتخذ. وأشرت إلى أن تطوير العلاقات المصرية الإسرائيلية ليس معناه التطبيع فقط كما يفهم البعض، وإنما إعادة هيكلة العلاقات من جديد مع الحفاظ على النجاحات التى تمت. وطالبت بإجراء مراجعة شاملة، ووجوبية للتطورات الإسرائيلية الداخلية باعتبار إسرائيل قضية أمن قومى وستظل.

من هنا نبدأ:

تحتاج الدعوة لإعادة تقييم ومراجعة السياسة المصرية إزاء إسرائيل إلى جملة من التوجهات التى يجب وضعها فى الاعتبار مع استمرار حالة الرفض الشعبى لفكرة التطبيع، والخروج من دائرة الأيديولوجية القديمة التى لم يعد لها وجود إلى مجال أرحب من التفكير وإعادة ترتيب الحسابات والمصالح الاستراتيجية الوطنية بدلا من البقاء فى دائرة ضيقة هامشية تحت مسمى أن مصر ليست فى حاجة إلى مراجعة سياستها، والخروج الآمن للعالم فى هذا التوقيت وإعادة بناء منظومة من العلاقات الجادة على مستوى الندية بدلا من اتباع انصاف السياسات التى قد نستمر فيها سنوات طويلة دون أن ننجز شيئا. والهدف المقترح ليس إسرائيل وليس التطبيع وليس تداولا لأفكار قديمة فى ثوب جديد أو إطلاق بالونة اختبار. الهدف الأساسى والاستراتيجى مرتبط ببناء استراتيجية مصرية جادة إزاء إسرائيل من خلال المسارات التالية:

المسار الأول:

تحتاج علاقات مصر فى الإقليم لمراجعة شاملة خاصة أن العلاقات المصرية مع ايران وتركيا متردية وهما طرفان إقليميان كبيران، وتبقى العلاقات مع دول الخليج مشوبة بحذر وتخوفات حقيقية متبادلة وصراع أدوار. وفى ظل التردد فى تطوير العلاقات مع إيران والتمسك بانتهاج السياسة القديمة فى التعامل، تبقى إسرائيل طرفا مهما فى أن تتجه مصر لبناء علاقات جديدة استثمارا لمصالحها فى الإقليم بأكمله، وكمدخل هام فى إدارة أفضل للعلاقات المصرية الأمريكية. ومن ثم الهدف ليس الدخول فى شراكات سلام أو اتفاقيات جديدة لدينا تحفظات عديدة على مجملها، وإنما التأكيد على تحرك مصرى شامل ومتعدد المسارات إزاء إسرائيل لتوظيف واستثمار العلاقات المصرية الإسرائيلية للمصالح العليا المصرية بعيدا عن الأيديولوجيات القديمة؛ خاصة أن دولا فى الإقليم كالسعودية بدأت الخطوة فى الانفتاح على إسرائيل، بل والتحرك فى مسارات معلنة وسرية توظيفا لمتغيرات جديدة طرأت على الإقليم بأكمله.

المسار الثانى:

أرى أن الذين يرون أن مصر ليست هذه الدولة الكبيرة فى هذا التوقيت للقيام بذلك الدور الاستراتيجى وأنها أضعف من القيام بدور جديد محورى فى المنطقة لا يدركون معطيات الدور المصرى، الذى أرى أنه لم ينحسر وإنما لم يتطور. فالسلام مع الجانب الآخر استقر منذ 40 عاما، وعلى مصر اليوم أن تتوقف لتقيم وتبنى استراتيجيات جديدة تجاه إسرائيل خارج نطاق معاهدة السلام أو البروتوكول العسكرى الحاكم؛ خاصة أن إسرائيل على الجانب الآخر قامت بهذا، وتقوم بدراسة مستقبل العلاقات المصرية الإسرائيلية لسنوات طويلة ــ وتحت أيدينا دراسات استشرافية لـ30 عاما، وتخطط لبناء شرق أوسط إسرائيلى تحتل فيه دورا مركزيا. فهل تقف مصر تنتظر ما تخطط له إسرائيل أم تتفاعل وتطور نمط تعاملاتها وفقا لتقديراتها انطلاقا من حقائق الدور المصرى فى المنطقة مع الاحتفاظ بالمعطيات المصرية الراسخة لسلام موجود بالفعل، نقر بأنه سيظل سلاما باردا وليس مطلوبا أن يكون دافئا.

علينا فى هذا السياق أن نثق فى القدرات والإمكانيات الوطنية، ونكف عن الانتقادات والتفكير من منظور واحد أو إعادة مصر إلى حقب سالفة كلفتنا الكثير. فجيلى لا يرى فى هذا الكيان ولا غيره ما يجعلنا نخاف أو نتردد أو نسلم له بل الاشتباك معه على كل المستويات؛ حيث تملك مصر على كل المستويات القدرة على ذلك من جيل كامل درست له وأشرفت على رسائله العلمية وتابعت إمكانياته من منبر الأكاديمى وليس المنظر أو الأيديولوجى، كما اختبرت الجانب الآخر فى جولات تفاوضية عديدة ومنذ سنوات ما بعد أوسلو، وهو ما يتمشى أيضا مع التخطيط الاستراتيجى لبناء قوات مصرية متعددة المهام سواء على مستوى التسليح ومصادر الحصول عليه والإدراك الوطنى بالمخاطر والتحديات من الجبهة الإسرائيلية، والإيمان بقدرة مصر على المواجهة بكل صورها وليس الدخول فى السراديب الأيديولوجية التى قد يراها البعض حوائط صد لا قيمة لها فى عالم جديد يتشكل ويجب أن يكون لمصر موقع بارز فى خريطته.

ماذا نفعل ونحن نرى إسرائيل تعيد بناء نظرية الردع الاستراتيجى وتبنى نظرية أمن قومى جديدة وتبنى جيشا جديدا وفق عقيدة قتالية جديدة تعتمد على الكيف وتطور فكر مناورات تحول الاستراتيجية السنوية وغيرها، هل مطلوب أن نتبنى خيارات سلبية، ولا نكشف مخططات إسرائيل من منطق التعاملات على مستوى الندية، لا أن ندخل فى علاقات صداقة كما يتوهم البعض.

المسار الثالث:

لم نطالب أن يكون هناك تحالف عسكرى أو استراتيجى أو إجراء مناورات مشتركة مثلما تفعل بعض الدول فى الخفاء، وإنما أكدنا أن مصر تملك من المناعة الوطنية الكثير، وبناء الدول والأمم الكبيرة يحتاج إلى قرارات تكتيكية واستراتيجية وإرادة سياسية كاملة وليس البقاء فى الهامش. إن مصر ليست دولة عابرة فى الإقليم مثل غيرها ولا تتوجه لبناء محاور أو استراتيجيات فى الخفاء، ومن ثم فإن أى حركة مصرية يجب أن تنطلق من الإيمان بتحديات الأمن القومى المصرى، خاصة أن الأمر مرتبط بالتهديدات الواردة على مصر والتى تقع داخل دائرة من الحدود مع قطاع غزة؛ حيث لا تزال المتطلبات المصرية لدى الجانب الفلسطينى فى حاجة لمراجعة فى ظل استمرار الأوضاع فى قطاع غزة على ما هى عليه. وبالتالى فإن الحركة المصرية تجاه إسرائيل يجب أن تنطلق من ضرورة الخروج من دائرة الفراغ إلى معرفة ما الذى يجرى على الجانب الآخر. فإسرائيل الخمسينيات تغيرت تماما وليس هناك وجود لإسرائيل القديمة إلا فى أذهان بعض من الذين عاشوا وما زالوا يعيشون على ذكريات النكسة والهزيمة وغير مدركين أن صراعنا مع هذا الكيان بدأ بتحقيق النصر فى أكتوبر وبمعاهدة السلام وعودة سيناء وتحرير الأرض. فقد كان من الطبيعى أن تبدأ خطة اختراق هذا الكيان على كل المستويات ولكننا وقفنا عاجزين أمام جيل من المحبطين الذين رأوا فى إسرائيل دولة مستوطنة مغتصبة ــ وهى بالفعل حتى الآن هكذاــ وأننا لا نملك الوقوف أمامها برغم أن عوامل التفكك الداخلى لمن يعلم كبيرة وعديدة ونستطيع فى مصر وبإمكانيات مصرية وطنية أن نتفاعل مع هذه التطورات مع الجانب الإسرائيلى فى ظل تحولات المشروع الصهيونى الراهن، والذى يعاد النظر فى كل مبادئه وأفكاره. هل يعلم البعض أنه تجرى اليوم فى إسرائيل وفى دوائر محددة صياغة مشروع صهيونى جديد لإعادة بناء الدولة على أسس جديدة.

***

إن إسرائيل فى ورطة ومأزق حقيقى وفى حالة من العجز السياسى والحنين، لاستنساخ جيل جديد من المؤسسين الجدد. هل نقف أمام كل هذا ولا نتقدم أم نسعى لوضع سياسات جديدة على أسس تراعى مصالح مصر العليا، وهو ما يجب على الجميع أن يتعامل معه، ونكرر لدينا فى هذا البلد إمكانيات حقيقية لفهم إسرائيل والكشف عن مخططاتها وأكرر ليس هذا تطبيعا وليس هذا تسليما بقيادة إسرائيل للمنطقة بل نقف فى مواجهة إسرائيل على مستوى الندية الكاملة.

إن لمصر حسابات قوة شاملة يعلمها الجميع، ولا نريد أن نتوقف عند سخافات تكرر بأن مصر مرتبكة ولا تملك قرارها وأنها دولة منهكة. ليس بهذا التصور يمكن أن نرى بلادنا أو نرى الذين يتحدثون من أعلى ومن منطق الأيديولوجيات لعصر انتهى ومر ولم يعد موجودا إلا فى أذهان البعض. ومن ثم فإن لم يكن لدينا الرؤية الاستشرافية للتعامل مع إسرائيل فإنها ستسود المنطقة، وبالتالى فإن واقع السياسة الإقليمية الحالية حول مصر يتطلب بناء منظومة حسابات جديدة ليس تجاه إسرائيل فحسب بل ومع القوى الكبرى يشارك فيها كل الخبراء والمتخصصين.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved