بنوك وباشوات جدد

عبد العظيم حماد
عبد العظيم حماد

آخر تحديث: الإثنين 14 سبتمبر 2009 - 8:54 ص بتوقيت القاهرة

 هذه نصيحة مخلصة ومجانية للباشوات الجدد.. قبل أن تقروا إعادة الهيكلة المقترحة لبنك التنمية والائتمان الزراعى، اقرأوا كتاب ديفيد لانس الشهير جدا عن نهب مصر فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر، أقصد كتاب «بنوك وباشوات» الذى ترجمه الراحل الفاضل الدكتور عبدالعظيم أنيس ــ رحمه الله ــ ثم اقرأوا بعده رواية «عناقيد الغضب» للروائى الأمريكى الأشهر جون شتاينبيك.. وهى أيضا مترجمة إلى العربية بقلم الأستاذ سعد زهران.

من المؤكد أن باشواتنا الجدد.. الدكتور أحمد نظيف رئيس الوزراء، ووزراء زراعته، وماليته، واستثماره، وزملاءهم من رجال الفكر الجديد فى أمانة السياسات وغيرها، سوف يكتشفون من الكتاب والرواية، ما اكتشفته أجيال قبلهم من المفكرين والسياسيين والاقتصاديين، من أن إدارة العلاقات الاقتصادية فى المجتمع بمنطق الرقم المحاسبى، والعقد القانونى فقط لاغير، شىء عفا عليه الزمن، لأنه ببساطة لا يوجد شىء اسمه «الاقتصاد».. ولكن الموجود هو الاقتصاد السياسى والاجتماعى الذى يعنى إدخال عوامل أخرى مهمة فى الحسبة.. منها العدالة التى هى أوسع من القانون، ومنها الربح الاجتماعى، والاستقرار السياسى، والاستقلال الوطنى.. وهى كلها لا تقاس بالأرقام، ولا توضع فى بنود الموازنات.

إذا صح ما نشرته الشروق يوم السبت الأول من أمس عن الخطط الحكومية لإعادة هيكلة بنك التنمية والائتمان الزراعى، فإن هذه الحكومة توشك أن ترتكب خطيئة كبرى، علما بأن مصطلح إعادة الهيكلة نفسه ــ طبقا للتجارب السابقة ــ يوحى بأن ما نشر صحيح، وأن ما خفى كان أعظم، لأن هذا المصطلح كان المدخل الحكومى لإبطال الاعتبارات الاجتماعية والسياسية فى السياسات الاقتصادية، ولتعطيل دور الدولة فى إدارة سوق متنافسة، ولكن متوازنة، ثم إنه كان مدخلا للكثير من الفساد والنهب فى الخصخصة والبنوك.. وغيرها.

تقول «الشروق» فى عدد الأول من أمس، إ الحكومة بالاتفاق مع بنك «رابو» الهولندى وضعت خطة لخصخصة بنك التنمية والائتمان الزراعى، وبذلك سيتحول هذا البنك إلى مؤسسة هدفها الربح، وضمانا لتحقيق الربح فإنه سوف تفرض على المزارعين الذين يطلبون قروضا شروطا أشبه ما تكون بـ«الشيكات» التى يأخذها بائعو السلع بالتقسيط من زبائنهم الفقراء ضمانا للسداد فى الموعد، ومن هذه الشروط عقود بيع للأطيان الزراعية باسم البنك فى أخف الحالات، ثم توكيلات موقعة فى الشهر العقارى للبنك ببيع الأطيان أو غيرها من العقارات لسداد القرض فى حالة التعثر علما بأن قيمة هذا الرهن لابد أن تساوى ثلاثة أضعاف قيمة القرض، طبقا للشروط الجديدة، وهذا فى الحالة الأقل تيسيرا، أما فى حالة القروض الكبيرة فإلى جانب ذلك كله سيطلب البنك من المقترض أو الضامن شيكا مقبول الدفع على أحد البنوك التجارية، مما يعنى الدفع أو السجن.. فضلا عن نزع ملكية العقارات المرهونة ضمانا، بالله عليك يا دكتور نظيف.. ويا كل الدكاترة فى حكومتنا.. هل سيجرؤ فلاح مصرى يتذكر ما حدث لجده، أو لجيران جده على يد بنوك الباشوات الأجانب والمصريين فى القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين على التقدم بطلب قرض من البنك الوطنى للتنمية والائتمان الزراعى، وهو يعلم أنه سوف يفقد ملكية توازى ثلاثة أمثال القرض فى حالة العجز عن السداد، علما بأن أسباب العجز عن السداد فى القطاع الزراعى بالذات لا تكون فى الأغلب الأعم هى المماطلة، ولكنها تعود إلى طبيعة الإنتاج الزراعى الذى قد يزيد فى موسم، ويتراجع فى موسم آخر لأسباب لا دخل للمزارع فيها، أو إلى طبيعة السوق التى تعلو وتهبط لأسباب لا دخل للمزارع فيها أيضا.. وارجعوا مرة أخرى إلى كتاب ديفيد لانس، ورواية جون شتاينبيك.

المحصول كله قد يضيع بسبب حالة جوية مفاجئة، أو بسبب أزمة سماد، أو أزمة طارئة فى مياه الرى.. أو ظهور آفة جديدة تحتاج مقاومتها إلى اكتشافات جديدة.. فماذا يفعل المقترضون فى مثل هذه الحالات؟
لقد كان إدراك باشوات ما قبل ثورة سنة 1952 لهذه الحقائق البديهية، وإدراكهم للكوارث التى حلت بالعائلات، والقطاع الزراعى، والمجتمع ككل هو الذى دفعهم لإنشاء بنك التسليف الزراعى «الاسم السابق للبنك الوطنى للتنمية والائتمان الزراعى الحالى».. وترافق مع هذا التحليل الاقتصادى الاجتماعى التزام وطنى سياسى من حكومات ما قبل الثورة لتخفيف قبضة البنوك والمرابين «الخواجات» على الريف المصرى، كضرورة من ضرورات الاستقلال الوطنى.

ويظهر ذلك بوضوح قاطع فى فلسفة تأسيس بنك التسليف الزراعى «الأول».

طبقا لقانون تأسيس ولوائح عمله، فهو فى الأصل لا يهدف إلى الربح من قريب، أو بعيد، ولكن لأنه بنك وليس جمعية خيرية، فقد تقرر أن يحصل على فائدة على قروضه، ولكنها فائدة بسيطة، وبنسبة لا تتجاوز 5٪ لتغطية المصروفات الإدارية فقط لا غير، وكان الهدف من كل ذلك هو حماية الملكيات الزراعية الصغيرة من الوقوع فى براثن البنوك والمرابين الأجانب كضرورة اجتماعية واقتصادية، ووطنية قبل كل ذلك وبعده.

كان ذلك قبل ثورة 1952، أما الفترة الناصرية من هذه الثورة فقد كان التزام الدولة نحو الفلاحين وصغار الملاك من أهم منجزات تلك الفترة، فما الذى تغير، وأوجب أن يخالف بنك التنمية والائتمان الزراعى هذه الفلسفة، وتلك المبادئ، ويتحول إلى بنك تجارى عادى فى الممارسة فيطبق مبدأ الفائدة المركبة على المقترضين المتعثرين، ومن ثم تتزايد مديونياتهم، فيتزايد عجزهم، وفى كل مرة تتطلب الأزمة قرارا سياسيا من رئيس الجمهورية، أو رئيس الوزراء لحل هذه الأزمة إما بالإعفاء الجزئى، أو إعادة الجدولة.. إلخ.

ودائما بإنقاذ الفلاحين المدينين فى آخر لحظة من نزع ملكياتهم أو دخلوا السجون.
الإجابة هى الفكر الجديد.. الذى لا يعرف سوى الورقة والقلم، والأرقام والنسب الصماء فى إدارة الاقتصاد، وكأن الوطن والمجتمع محلج قطن كالذى يملكه وزير الزراعة الحالى، أو سوبر ماركت كالذى يملكه هذا الوزير، أو ذاك، أو صديقهما.
بالطبع ليست هذه دعوة للبنك أن يتصرف كجمعية خيرية، فلا يطالب بسداد قروضه، ولا لتشجيع المماطلين على عدم السداد، فهذا أسوأ على الاقتصاد وعلى المجتمع.. لأنه سيعنى إفلاس البنك، وكل بنك يتعامل مع المزارعين، ولكنها دعوة للعودة إلى الفلسفة الأصلية للبنك والتى تتلخص فى معادلتين: لا ربح، ولا فائدة مركبة.

ربما تكون هناك فلسفة جديدة لا يفصح عنها وراء هذا التحول.. أو هذا الفكر الجديد، وهى استخدام آليات الربح والفائدة المركبة والشروط الجديدة لإقراض الفلاحين لتجميع الملكيات الزراعية الصغيرة فى ملكيات كبيرة، وذلك بعد نزع ملكية صغار المزارعين المتعثرين، وعرضها للبيع لمن يدفع أعلى ثمن، لتظهر من جديد فئة كبار الملاك، القادرين على إدخال الأساليب والتكنولوجيا الحديثة فى الزراعة، ومن ثم القادرون على إحداث طفرة نوعية وكمية فى الزراعة المصرية، لمصلحة الوطن والمواطنين.

وقد تبدو مثل هذه الحجة مقنعة، ومثل هذا الهدف مشروعا.. ولكنه الحق الذى يراد به الباطل.

نعم الزراعة المصرية فى الوادى والدلتا لا تزال متخلفة، والملكيات مفتتة، ولا تحقق وفورات الإنتاج الكبير، ولكنها تكفل مجتمعا كثيف السكان ومتضامنا، وقديما قدم التاريخ المصرى، ومن ثم فلا يمكن تحويل ملاكه فجأة إلى أجراء دون دفع ثمن اجتماعى باهظ، ما دام الاقتصاد القومى كله لم يتحول إلى اقتصاد حديث يوفر فرص عمل ورزق بديلة لهؤلاء الذين سيخرجون من ملكياتهم الصغيرة، وينضمون إلى جيوش العاطلين غير المؤهلين وغير المدربين.

ثم لماذا لا تطبق هذه الفلسفة الجديدة فقط على الأراضى الجديدة، والمستثمرين فيها..
حتى إذا ما اجتذبت هذه المشروعات أيدى عاملة جديدة، وساهمت فى تحقيق الديناميكية المطلوبة للاقتصاد القومى فى قطاعاته الأخرى ــ خاصة الصناعة ــ يمكن ساعتها البحث عن وسيلة للقضاء على ظاهرة تفتت الملكيات الزراعية فى الوادى والدلتا.

سؤال أخير: أين الاتحاد التعاونى الزراعى.. هل بقى له أثر؟ وهل كان إضعاف هذا الاتحاد، وقتل سياسة الدورات الزراعية المجمعة للتغلب على تفتت ملكيات الأراضى الزراعية القديمة خطأ قابلا للرجوع عنه، أم أنه كان قصدا مقصودا لنصل إلى هذه الغاية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved