انتباه؟!

عبد العظيم حماد
عبد العظيم حماد

آخر تحديث: الخميس 14 سبتمبر 2017 - 9:45 م بتوقيت القاهرة

ليست صدفة يقينا.. ولكنها ليست مؤامرة قطعا، والأرجح أنه تحول، أو على الأقل بداية تحول فى طريقة التعامل الدولى والأقليمى مع الأوضاع فى مصر.

هى ليست صدفة أن يقرر الكونجرس الأمريكى خفض المعونة المالية للحكومة المصرية للعامين الحالى والمقبل، وعلى الفور يصدر تقرير منظمة هيومان رايتس ووتش بإدانة السلطات عندنا بممارسة التعذيب الممنهج، ثم يليه ــ على الفور أيضا ــ تقرير لجنة مناهضة التعذيب فى الأمم المتحدة، معززا، ليصدق عليها بعد أيام المفوض السامى الأممى لحقوق الانسان، ويترافق مع كل ذلك بيان بالمعنى نفسه من المسئولة عن حقوق الانسان فى الحكومة الألمانية، فى انتظار المزيد ــ على ما يبدوــمن المنظمة الأوروبية لحقوق الانسان، ومن منظمة العفو الدولية، ومن الدول الرئيسية فى الاتحاد الأوروبى، كما جرت العادة.

القول بالصدفة هنا لا محل له، لأن المشاركة فى تبادل المعلومات والتقديرات، وتنسيق المواقف والمواقيت قائمة فيما بين كل تلك الجهات سالفة الذكر، وهذا معلوم للكافة، ومادام معلوما للكافة، فليس فى الأمر مؤامرة بالمعنى الساذج المستقر فى عقول العوام، وعقول من يفكرون بمنهج العوام، حتى لو ادعوا غير ذلك.

صحيح أن العلم المسبق بطبيعة العلاقات بين مكونات النظام الدولى الرسمى منه كالحكومات والأمم المتحدة، وغير الرسمى منه مثل منظمة هيومان رايتس ووتش لا يكفى لنفى التآمر فى هذه «المعزوفة» موزعة الأدوار بإتقان حول مصر، ولكن ما ينفيها ــ على نحو مؤكد ــ هو علم الأوساط الرسمية فى مصر بكل المقدمات والتداعيات التى أفضت إلى تلك النتائج، فقد كانت جلسة الاستماع فى إبريل الماضى فى مجلس الشيوخ الأمريكى مذاعة على الهواء، وأرسلت مصر وفودا للرد على الاتهامات الموجهة لها فى تلك الجلسة، كما أن السلطات المصرية متعاقدة مع شركات أمريكية متخصصة فى «الضغط والترويج السياسيين»، إلى جانب علاقات التعاون الوثيقة بين أجهزة «المعلومات» الرسمية فى كل من القاهرة وواشنطن، ووجود حلفاء مهمين لمصر بين أركان الإدارة الأمريكية، وكذلك الكونجرس، وأنصار إسرائيل، بمعنى أن «اللعب يجرى على المكشوف».

وفوق كل ذلك، وكما ذكرت الأنباء، فقد أرسلت منظمة هيومان رايتس ووتش تقريرها ــ قبل إصداره بثلاثة أشهر ــ إلى الجهات الرسمية المعنية فى مصر، وطلبت ردودا وإيضاحات، وكما ذكرت تلك الأنباء أيضا فإنها لم تتلق إلا الصمت والتجاهل،كما أبلغت الخارجية الأمريكية نظيرتها فى مصر بما سيحدث فى الكونجرس.

لابد إذن ــ والحال هذه ــ أن نفترض أن مصر الرسمية حاولت بأدواتها المختلفة ــ التى ذكرنا بعضها توا، وتلك التى لم نذكرها، أو لا نعرفها ــ وقف هذه التفاعلات غير المواتية، أو تغيير اتجاهها، ولكنها لم تستطع، بمعنى أن التيار المعاكس كان أقوى. 

لماذا؟ هذا هو السؤال الذى يجب أن ننشغل به، بعد أن ثبت أن التذرع بنظرية المؤامرة غير مجد، فضلا عن أنه غير صحيح.

قلنا فى الأسبوع الماضى هنا إن متغيرات كبرى حدثت فى الإقليم فى الأشهر الأربعة الأخيرة منذ زيارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب للعاصمة السعودية الرياض فى مايو الماضى، ولقائه فيها بزعماء خمسة وخمسين دولة عربية وإسلامية، وكانت النتيجة الأكبر لهذه الزيارة هى تدشين حلف موسع لهزيمة الإرهاب «الاسلامى السنى من ناحية»، ومن الناحية الأخرى حصر واحتواء «الإرهاب الاسلامى الشيعى « بقيادة إيران (حسب العقيدة الاستراتيجية فى منطقة الخليج).

وقد تحققت أو كادت هزيمة الإرهاب «السنى» ممثلا فى تنظيم داعش فى العراق وسوريا، وسائر الجبهات المتطرفة غير الداعشية فى الحرب الأهلية السورية، لكن النتيجة النهائية كانت ــ كالعادة ــ هى «الصب فى مصلحة إيران»، ونقول كالعادة، لأن كل ما فعلته الولايات المتحدة منذ هجمات 11 سبتمبر 2001 على واشنطن ونيويورك تصب فى مصلحة إيران، فقد أزال الغزو الأمريكى /الأطلنطى لأفغانستان أشد أعداء العقيدة الشيعية تطرفا من شرق إيران، ثم أزال الغزو الأمريكى /البريطانى للعراق أقدر أعداء إيران على حفظ التوازن معها فى الغرب، ليس ذلك فحسب، بل انفردت طهران بأكبر قدر من الهيمنة على مجمل الشئون العراقية، بما فى ذلك الشئون العسكرية، ثم يأتى الموقف الأمريكى المتخاذل (حتى فى حقبة ترامب) فى سوريا، ليمكن إيران، ومعها روسيا من الهيمنة على المستقبل السورى برمته، امتدادا إلى توسع وتعاظم الدور الاقليمى لحزب الله، وانتظارا لما سوف تسفر عنه المواجهة فى اليمن، التى يقع نصفها الشمالى فعليا تحت النفوذ الإيرانى، ثم جاءت المقاطعة العربية الرباعية لقطر بمباركة أولية من ترامب، لتدفع هذه الأخيرة للاستنجاد بإيران، ولو اقتصاديا وخدميا على الأقل.

ما الذى يعنيه ما سبق، وما شرحنا بعضه فى مقال الأسبوع الماضى للاستراتيجية الغربية لمواجهة وهزيمة الإرهاب «الاسلامى»؟!

قبل عدة سطور رأينا أن الإرهاب الاسلامى «السنى» هزم بالكامل أوكاد فى العراق وسوريا، أما تبقى منه فهو مجرد فلول فى سيناء أو ليبيا، أو ذئاب منفردة فى أوروبا وأمريكا، وإذن فالخطر الأكبر يأتى الآن من الإرهاب الإسلامى الشيعى حسب العقيدة الاستراتيجية فى الخليج، أو من تعاظم الدور الإيرانى المهيمن الآن على نسبة كبيرة للغاية من عملية صنع القرارات فى العراق وسوريا ولبنان واليمن، والمهدد لإسرائيل، وللمصالح الأمريكية فى الخليج والشرق الأوسط.

ويزيد من فرص تعاظم هذا الدور الإيرانى ــ أولاــ زوال تحدى المنظمات السنية المتطرفة له بهزيمتها النهائية، على نحو ما بينا سابقا، وثانيا أن الاسلام الشيعى بطبيعته ذو بنية تنظيمية محكمة، وذو توجه كفاحى منذ بواكير ظهوره، ويمتلك تاريخيا مصادره الشعبية للتمويل، مستقلا عن الحكومات، من خلال فريضة «الخمس»، وهذا الاسلام الشيعى لم يعد الآن فقط مؤمنين مصطفين خلف مراجعهم وأئمتهم، ولكنه أصبح حكومة مسيطرة بالكامل فى ايران، وأحزابا حاكمة، وحشدا شعبيا فى العراق ـ وحزبا شريكا فى الحكم بنفوذ كبير فى لبنان، يمتلك أيضا السلاح، والخبرة القتالية، كما أصبح حزبا حاكما فى اليمن الشمالى، فما هو الضمان أن لايتحول هذا التهديد الشيعى «المنظم والمسلح والحاكم» الكامن أو المحتمل إلى قوة تهديد نشطة للمصالح الأمريكية، وللحكومات الصديقة لواشنطن، فى مجمل الخليج والشرق الأوسط، من خلال الأقليات الشيعية.. ولإسرائيل على وجه الخصوص.

لقد ثبت من الانهيار السريع لمشروع الحلف الاسلامى السنى ضد إيران الذى دشنته قمة مايو الأمريكية / العربية / الاسلامية، فى الرياض، أن الحكومات «السنية» بأوضاعها الحالية، لا يمكن التعويل عليها وحدها، سيما وأن اختلاف المسارات يمكن أن يفجر بينها صراعات حادة، مثلما حدث بين الرباعى العربى، وبين قطر، كما أنه يثبت يوما وراء يوم أن معظم هذه الحكومات «السنية» غير مستقرة، بما يكفى لردع أو هزيمة التحدى الشيعى بأبعاده سابقة الذكر، سواء لأسباب اقتصادية وسياسية كحالة مصر، أو لأسباب عائلية ومذهبية كما هو حال السعودية.

غير أن أهم أسباب عدم الاستقرار السياسى فى كبرى دول الاسلام السنى فى الشرق الاوسط ــ من وجهة نظر الدوائر المعنية بالمنطقة فى واشنطن والعواصم الأوروبية الكبرى ــ، هو ذلك الشرخ العميق والمتسع، والمطلوب التئامه بين الحكومات، وبين تنظيمات الاسلام السياسى، الموصوفة لدى هذه الدوائر بالاعتدال، وفى مقدمتها بالطبع جماعة الإخوان المسلمين، وقد كانت هذه هى وجهة النظر السائدة رسميا فى الولايات المتحدة وأوروبا، منذ أن دشنت كوندوليزا رايس (وليس هيلارى كلينتون) سياسة الارتباط البناء بين واشنطن والجماعة فى يوليو عام 2007، أى تحت رئاسة بوش الابن نفسه، وليس تحت رئاسة باراك أوباما.

هذه الاستراتيجية القائمة على دمج الاسلاميين المعتدلين فى الحياة السياسية لبلدانهم لدعم الاستقرار المحلى من ناحية، وللافادة من خبراتهم «التنظيمية» العميقة والممتدة عبر الإقليم والعالم فى موجهة التهديد الكامن من الاسلام الشيعى المنظم والحاكم والمسلح.. هذه الاستراتيجية كانت قد جمدت أو توارت بسبب فشل الحكم الإخوانى فى مصر، ثم سقوطه بناء على طلب الشعب.

أما وقد طرأت المتغيرات آنفة الذكر، معززة بنجاح التجربة التونسية فى دمج الاسلاميين فى السياسة والحكم، وبالحاجة إلى تقوية الاسلام السنى المعتدل لملأ بعض الفراغ فى كل من العراق وسوريا واليمن أمام التغول الشيعى، ولو فى إطار التقسيم الفيدرالى أو الكونيفدرالى، وكذلك معززة بالحاجة إلى سد الذرائع أمام تحول مزيد من المعتدلين إلى متطرفين، يعيدون الروح إلى داعش وأمثالها، فإن المرجح هو أن «الارتباط البناء» الذى دشنته كوندوليزا رايس قد عاد ليصبح أولوية للسياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط، ومعه عادت أولوية حقوق الانسان، والتحذير من القمع والاقصاء اللذين يؤديان إلى مزيد من التطرف.

الم يقل وزير الخارجية الأمريكية الحالى «نريد أن نرى تقدما نحو الديمقراطية فى مصر»؟
وأما إسرائيل فلاخوف عليها من «الاسلام السنى المعتدل» بعد أن كان الحوار البناء إياه قد حصل من جماعة الإخوان على اعتراف مسبق وموثق باتفاقية السلام بينها وبين مصر، أما الهدف من ذلك التوزيع المتقن للأدوار بين الكونجرس والأمم المتحدة، وهيومان رايتس ووتش وغيرها، فهو اقناع المخاطبين بهذه الرسائل بأخذ الأمور بجدية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved