وما زلنا فى التحرير

أهداف سويف
أهداف سويف

آخر تحديث: الأربعاء 14 ديسمبر 2011 - 1:00 م بتوقيت القاهرة

كتبت فى الأسبوع الماضى: «الخيام الباقية (فى التحرير) تتمسك بالتفاؤل نحو إمكانية فتح الميدان والتواصل مع الناس الذين يستعملون الميدان بشكل عادى، وهذه تجدها فى الأغلب أمام المُجَمَّع». وكانوا على حق فى تفاؤلهم؛ فقد نجحوا فعلا فى فتح الميدان، ثم الإبقاء عليه مفتوحا، وحفظوا الاعتصام فى المنطقة المجاورة للمُجَمَّع، بينما يسير العمل فى ذلك الصرح الحكومى الضخم سَيرِه المعتاد. وقد بدأ المعتصمون فى تنفيذ مبادراتهم وفعالياتهم، فأقاموا معرضا للصور الفوتوغرافية، ويديرون حلقات نقاش، وأقيم عندهم عرض لسينما ميدان التحرير، ويجرون الآن حوارا حول كيف يمكن للاعتصام تطوير احتضانه لأطفال الشوارع.

 

ويوم الجمعة، تجسدت إحدى مبادرات التحرير: هيكل طبى تطوعى فى الميدان بدأ فى تنفيذ نموذج صغير جدا للقيمة الثورية: «الحق فى العلاج لكل مواطن». خيمة فى الميدان، أى مواطن يقدر يدخل يطلب استشارة أو علاج. الخيمة تهدف لأن تكون موجودة بشكل دائم. ولكنها، فى هذه المرحلة، ستكون سفيرة التحرير إلى ميادين مدن مصر الأخرى: الجمعة القادمة فى الإسكندرية، والتى تليها فى السويس، وهكذا.

 

جلست فى الخيمة الطبية هذه ساعة واحدة بعد ظهر يوم الجمعة. وهذا ما رأيت: رأيت طبيبا وطبيبة وممرضة وصيدلانية؛ كلهم من الشباب. يوزعون الأدوار بسلاسة وكأنهم فريق عمل متآلف من زمن. يُقبِلون على من يأتى لهم، يسألون أسئلة تفصيلية، يقدمون العلاج وأحيانا يلحون عليه. جاءت سيدة تشكو الصداع والهبوط، قاس لها الطبيب الضغط ووجده منخفضا فأعطاها قرصا من الدواء وأوصاها بأن تأكل شيئا مملحا. خرجت من الخيمة ورأيناها تذهب فتجلس إلى جانب شجرة. وبدون كلام ذهب أحد الشباب واشترى كرتونة شيبسى، وكرتونة حليب، وكرتونة عصير. مر عليها أولا، ثم دخل الخيمة. تعلمنا: ليس فقط الدواء، بل ما يستلزمه من مأكل أو مشرب بسيط. جاء طفل: ولد، قال إنه فى الثانية عشرة، قال إنه داخ ووقع فى الشارع، فى وسط البلد، وإن أحدهم نصحه بالمجىء إلى هذا المكان. مد لنا يده بورقة مكتوب فيها: «عيادة الثوار، ميدان التحرير». ولسبب ما تأثرنا، وأخذنا نتبادل هذه الورقة، المنزوعة من بلوك نوت فى الشارع، الآتية لتعْلِمُنا أننا موجودون هنا فعلا. ثم جاءت سيدة تعانى من تنميل مؤلم فى قدميها. ثم جاء رجل ذراعه ينزف وهو يصر على أنه «خبط فى مطواة» وحسبه الله ونعم الوكيل. ثم جاء شاب ذو جرح قديم غائر ومفتوح فى رسغه اليسرى. قال إنه لم يتمكن من خياطة الجرح إلى أن فات الأوان وأنه يخاف أن يتلوث. جلس إلى جانبى، فسألته كيف جُرِح. قال إنه من شباب ماسبيرو، وكانوا طالبين شباب قبطى يكتبون «الله أكبر» بدمائهم على راية يرفعونها برهانا على أننا كلنا واحد ــ «زى ما عملوا فى سينا» ــ وأن كثيرا من الشباب تطوعوا بدمائهم وهو منهم، ولكن، لعدم خبرته، فقد «غَوَّط معاه المشرط». أخذت الممرضة الشابة ــ المحجبة ــ تنظف جرحه وتنهره بحنان «أرجوك بلاش تعمل كده تانى»، والتقت عيناى بعينَىّ الصيدلانية الشابة المغرورقتان بـ«الدموع»

 

يا ناس. أى فرق بين حياة الميدان، تجليات الميدان، خطاب الميدان، وخطاب كل من يحاول الآن أن يكون «السلطة». خبر غريب أقرأه الآن:

 

«الدكتور الجنزورى أبدى موافقته على.. ضم الشهداء والمصابين فى شارع محمد محمود وماسبيرو ومنحهم كل الامتيازات الخاصة بالشهداء والمصابين فى ثورة 25 يناير».

 

ما هى هذه «الامتيازات»؟ أهالى الشهداء يجلسون معنا على الرصيف، يؤكدون أن حق أبنائهم هو فى القصاص، وفى استكمال الثورة لمسيرتها: هذه هى مهمتهم الآن.

 

استكمال الثورة هو ما نعمل كلنا عليه. يخطئ من يظن أن جموع المنتخبين فى مكان والثوار فى مكان آخر. ويخطئ من يفكر باستعمال الانتخابات كنوع من التلهية، يفرح الناس بها ويتصورون أنهم وصلوا إلى «الديمقراطية»، فيضعون الورقتين فى الصندوق ثم يعودون ساكنين إلى بيوتهم.

 

لنتذكر لماذا قامت الثورة، وماذا نعنى باستكمالها. قامت الثورة تحت عناوين: عيش، حرية، عدالة اجتماعية. أى أنها قامت طالبة تغييرا جذريا فى علاقة المحكوم بالحاكم وفى توازنات القوة فى المجتمع ــ ولكىّ نبدأ حتى فى أبسط الخطوات نحو هذه الأهداف الكبيرة نحتاج إلى أجهزة تشريعية، وتنفيذية، وقضائية، وإعلامية نابعة من الثورة، مقتنعة بها، تتفاعل مع الشعب بقطاعاته، تستلهمه، وتقنن طاقاته وإبداعاته وتستعملها. وفى هذا السياق يتحدد موقع القوات المسلحة، ومجلسها الأعلى، على أنه ذراع البلاد القوى، الرادع للعدو الخارجى، والذى يخضع لسلطة حكومة مدنية منتخبة.

 

والجموع الغفيرة التى تشارك فى الانتخابات تشارك فيها آملة أن ينتج عنها جهاز تشريعى ثورى، يقيم جهازا تنفيذيا ثوريا، يطهر أجهزتنا القضائية والإعلامية فنبدأ فى طريق تحقيق أهداف الثورة.

 

والجموع التى تقوم بالإضرابات فى المصانع وأماكن الدراسة والعمل تقوم بها وهى تشير لنا مبينة الاتجاه نحو أهداف الثورة.

 

والمعتصمون فى الميدان ــ سواء فى خيام المجمع أو فى خيام شارع مجلس الوزراء ــ يحفظون جذوة الثورة ويحافظون عليها، يُذَكِّرون الكل بأهدافها الكبيرة، وبالثمن الذى دفعناه لها.

 

العملية السياسية عملية توافقات وتوازنات؛ عملية براجماتية، تفاوضية، تتحرك فى حدود الواقع والممكن. نحن بحاجة إليها. لكننا أيضا بحاجة إلى من يتمسك بنقاء الثورة، بوضوح الهدف وعدم المهادنة فيه، بالإصرار على البعد المثالى، بطرق أبواب المستحيل. هذا ما يفعله أهل الميدان. يفعلونه فى البرد، من الخيام، تاركين ما لهم من حياة وراحة، معرضين أنفسهم للأمن والبلطجية، ليحافظوا على البعد المثالى، البعد الكونى للثورة المصرية. هم من يمسكون جمرة الثورة اليوم، يحفظونها لكم؛ يوم تطلبونها تجدونها عندهم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved