ديمقراطية الغرب فى عهدة ميركل

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 14 ديسمبر 2016 - 9:30 م بتوقيت القاهرة

نظلم الولايات المتحدة حين نتهمها بالمسئولية عن نزعة التخلى عن بعض أو كثير من المبادئ والممارسات الديمقراطية فى عالم الغرب. تؤكد شواهد عديدة أن أوروبا سبقتها إلى امتلاك هذه النزعة. رأينا فى السنوات القليلة الماضية كيف أن حركات قومية وعرقية متطرفة نشأت ثم نمت بسرعة رهيبة حتى صارت تهدد بالوصول إلى الحكم باستخدام أدوات الديمقراطية ذاتها التى تنوى الانقلاب عليها. ثم رأينا أكثر من حكومة فى شرق أوروبا تمردت فخرجت عن التزاماتها الديمقراطية وراحت تمارس أساليب فى الحكم مشتقة من تاريخ طويل من الخضوع للاستبداد فى ظل إمبراطوريات متعاقبة، العثمانية والهابسبرج والنازية والسوفييتية.

ابتهج بعض زعماء أوروبا الغربية حين خرجت من ثنايا الثورات الملونة التى اجتاحت دول شرق أوروبا فى نهاية عهد الإمبراطورية السوفييتية قيادات تقود الانتقال إلى الديمقراطية الغربية لتتوحد أوروبا بأسرها، أو معظمها، تحت لواء الديمقراطية كما هى مطبقة فى دولهم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. واقع الأمر كما يتبدى لنا الآن هو أن ما حدث فى دول أوروبا الشرقية طوال السنوات التى تلت نشوب ثورات الزهور والألوان لم يكن الانتقال إلى الديمقراطية الغربية وإنما الانتقال إلى ما يمكننى أن أطلق عليه الديمقراطية غير الليبرالية، ديمقراطية ولكن بصفات وأدوات وممارسات لا ليبرالية. بمعنى آخر، نرى ما يجرى فى عديد من دول أوروبا كما لو أن أوروبا صارت الوحى الذى هبط على دونالد ترامب وأنعش مريديه والمؤمنين به، أو نرى ما يجرى فيها كما لو أنها اكتسبت بظاهرة ترامب طاقة رهيبة تستطيع بفضلها تغيير شكل وجوهر القارة الأوروبية لسنوات مقبلة.

•••

فى أمريكا كما فى أوروبا وربما كما فى دول أخرى فى كل الأنحاء وقعت على مدى العقود الأخيرة ثلاثة تطورات أثرت فى اعتقادى تأثيرا عميقا فى شعوبها. هناك التطور الذى بدأ متدرجا حتى صار حقيقة واقعة ومصدرا مؤكدا من مصادر التوتر الداخلى فى كل دول الغرب. إنه خيبة أمل الجماهير العريضة وبخاصة أفراد الطبقة الوسطى فى اقتصاد السوق. كانت الصدمة أكبر فى دول شرق أوروبا، كما كانت فى مصر الثمانينيات والتسعينيات، ففى تلك الدول ارتفعت التوقعات بعد تنحية الاشتراكية وسياسات تدخل الدولة إلى حدود قصوى، ولكن لم تكن النتائج فى جميع الحالات فى مستوى التوقعات. أضف أن هذا التطور ارتبط بالصعوبات التى صاحبت صعود وانكسار عملية الانتقال إلى الديمقراطية. هكذا ارتبطت فى الأذهان مسألتا صعوبات الانتقال وسوء أداء حكام فى أحسن الأحوال عاجزين وفى أسوأها فاسدين. أكاد أجزم بأنه فى شرق أوروبا بل وفى دول بعينها فى غرب أوروبا بل وفى الولايات المتحدة نفسها انخفضت إلى أدنى الدرجات الثقة بين الشعوب من ناحية والنخب السياسية الحاكمة من ناحية أخرى. أما التطور الثالث، فهو أكثر انطباقا على الحالة السياسية فى دول شرق أوروبا والعالم النامى وبخاصة فى دول الشرق الأوسط، فهو الضعف المتوارث للمجتمع المدنى فى حالات بعينها وفى حالات أخرى انكساره تحت ضربات موجعة وجهتها سلطة رافضة للديمقراطية الليبرالية.

•••

كان النصف الثانى من القرن العشرين المرحلة التى تعرضت فيها الديمقراطية الغربية لتحديات كبرى. ففى الستينات نشبت الثورة الثقافية فى فرنسا وتمددت فى دول أوروبية أخرى ووصلت شرارات منها إلى دول فى العالم العربى وفى آسيا. خلف الاحتكاك بين الديمقراطية وشعارات الثورة الثقافية آثارا واضحة، ليس أقلها شأنا المكانة الجديدة التى حظى بها الشباب والنساء فى المجتمع، كذلك برزت وبقوة مبادئ تعامل جديدة مع الأقليات ومع الحقوق والحريات بشكل عام. هكذا انصهرت فى الفكر الديمقراطى والممارسات الديمقراطية أفكار جديدة حتى توحدت جميعها فى منظومة واحدة. لا شك أن الديمقراطية بمضمونها الجديد بعد الثورة الثقافية هددت كثيرا من سيطرة وربما احتكار نخبة صغيرة لمقاليد الحكم فى النظم الديمقراطية مما دفعها بعد ذلك لإصدار قوانين مقيدة للحقوق والحريات واتخاذ مواقف معادية للمجتمع المدنى.
من ناحية أخرى وابتداء من عقد السبعينات وقعت ثورة العولمة. هذه الثورة التى لم يفلت من التأثر بها فرد أو شعب أو حكومة. مازلنا نعيش ثمارها ونعانى من طغيانها. تأثرت بها التجارة الدولية وفى ظلها خرجت الصين إلى العالم وانحسرت قوة الطبقة العاملة بل اختفت نقابات وتراجعت الاشتراكية كمبادئ وحركات. وفى ظلها صعدت كذلك نخب سياسية واقتصادية جديدة وتغيرت مكانة الطبقة الوسطى. ثم لحقت بثورة اقتصاد السوق وحرية التجارة ثورة الإنترنت وقوة الإعلام المجتمعى واكتشفنا جميعا خطورة هيمنة ظاهرة الإعلام المزيف والخير الكاذب والرفض المستتر ولكن المطلق لمفهوم «الحقيقة». كلها ظواهر ومؤشرات قيدت بشدة حرية العمل الديمقراطى ونزعت الإضافات الليبرالية عنه وتركت عديد المجتمعات الإنسانية رهينة حركات وأحزاب وزعامات سلطوية.

•••

لا خلاف كبيرا بين مراقبى الظاهرة الترامبوية على أن أمريكا تتغير لغير صالح الديمقراطية الليبرالية التى كانت تبشر بها. معنى هذا أن لا قوة فى الغرب الآن يمكنها أن ترفع شعار الدفاع عن الديمقراطية سوى ألمانيا، وبالتحديد المستشارة أنجيلا ميركل. لا مبالغة كبيرة فى هذا التصور باعتبار اننا نتحدث عن غرب وقع فيه أخيرا تطورات جميعها فى غير صالح الاتحاد الأوروبى باعتباره الدرع البديلة لحماية قيم الغرب وتقاليده. وقع أولا البريكسيت وخرجت المملكة المتحدة من الاتحاد. وقع ثانيا أن انهمرت سيول اللاجئين من الشرق الأوسط وأفريقيا تجتاح أوروبا وتهديدات بسيول أخرى من أمريكا اللاتينية متوقفة عند حدود المكسيك تهدد باكتساح الولايات المتحدة. وقع ثالثا مسلسل صعود الحركات الشعبوية بعضها بميول يمينية متشددة والبعض الآخر بميول يسارية، وكلها تجد القدوة فى فوز ترامب فى انتخابات الرئاسة الأمريكية وتجد التشجيع والدعم من العملاق الروسى المنتصب على طول الحدود الشرقية لأوروبا طامعا أو شامتا. وقع رابعا شك عميق لدى معظم شعوب أوروبا الغربية فى سلامة وقوة منطقة اليورو وقواعد الوحدة النقدية وبخاصة بعد أن خلفت أزمة اليونان جروحا عميقة فى العلاقات بين شعوب جنوب أوروبا وبخاصة شعب اليونان والشعب الألمانى. وقع أيضا أن عادت روسيا تحتل ساحات اهتمام وقلق عميقين فى أوساط السياسة والدفاع فى جميع أنحاء الغرب وطارحة نموذج حكم مستقر لا يلتزم المبادئ الغربية للديمقراطية.

•••

شعوب أوروبا ليست واثقة تماما من صلابة «الغرب» الجديد فى الدفاع عن سلامة أوروبا وأمنها وتقاليدها. الأمل الوحيد منعقد الآن على فوز حلف السيدة ميركل فى الانتخابات المقبلة بعد شهور قليلة، ولكن حتى هذا الأمل يزداد ضعفا وابتعادا فى ظل أوضاع غير عادية وانحسار قوى فى الالتزام بمبادئ الديمقراطية وصعود القوى القومية الألمانية وارتباك عام فى العلاقات بين الدول.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved