اعتذار ماكرون خطوة شجاعة

صحافة عربية
صحافة عربية

آخر تحديث: الجمعة 14 ديسمبر 2018 - 2:05 ص بتوقيت القاهرة

نشرت صحيفة الحياة اللندنية مقالا للكاتبة «رندة تقى الدين» عن تحليل خطاب الرئيس الفرنسى «إيمانويل ماكرون» الموجه إلى المتظاهرين وتداعياته على الشارع الفرنسى.

بدا الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون متجاوبا مع شكوى السترات الصفر فى فرنسا إزاء أوضاعهم المعيشية الصعبة. واعتذر فى خطاب مقتضب لمدة ١٣ دقيقة (وخطاباته تقليديا طويلة جدا) للشعب الفرنسى إذا كان قد ظهر متكبرا أو بعيدا عن انشغالات شعبه. فقدم بلهجة رصينة ومهيبة أربعة إجراءات لإرضاء المحتجين، قائلا إنه يتفهم صعوبة حياة البعض وقساوة أوضاعهم المعيشية من دون الاستسلام لمن قاموا بأعمال العنف، فقد أدانهم، وقال إن العنف مرفوض، مؤكدا نفوذ رئيس الدولة، معتذرا إن كان جرح البعض. فقد قرر إزالة الضريبة على المتعاقدين ذوى الدخل المنخفض، وقال إنه يزيد مستوى الراتب الأدنى بمائة يورو من دون أن يدفعها رب العمل، وإزالة الضريبة عن ساعات العمل الإضافية، الإجراء الذى كان أدخله الرئيس الفرنسى اليمينى السابق نيكولا ساركوزى وإزالة الاشتراكى فرانسوا هولاند فور وصوله إلى الرئاسة. وقال إنه لن يعيد الضريبة على الثروة لأنها لا تجدى بشيء إلى المحتاجين، بل العكس فإن عودتها تؤدى إلى فرار رأس المال والمستثمرين وتزيد البطالة.

ووعد بحوار يقوده هو مع مختلف القوى على الأرض ومع ممثليهم رؤساء البلديات والنقابات، فخطابه عبر عن إدراكه خطورة الوضع المعيشى لجزء كبير من الشعب الفرنسى واصفا هذه الفترة بأنها «مرحلة تاريخية لبلدنا»، ومغيرا لهجته التقليدية البعيدة عن الشعب البسيط. فأبدى شجاعة فى هذا الاعتذار والتراجع.

لكن ردات فعل متظاهرى السترات الصفر كانت متفاوتة جدا، إذ إن البعض اعتبر أنه تجاوب مع متطلباتهم وأنهم سيعلقون تعبئتهم. لكن البعض الآخر، وهم أكثرية، اعتبروا أن هذا غير كاف أو أنهم وصفوا خطابه بأنه تمثيلية وإنهم سيستمرون بحراكهم إلى النهاية.

واقع الحال أن ماكرون أعطى ما يمكن إعطاؤه فى أوضاع اقتصادية صعبة، حتى إنه نقض أقوال وزير المال ووزيرة العمل اللذين عشية خطابه أكدا أن لا مجال لا لزيادة الراتب الأدنى ولا لإزالة بعض الضرائب. لقد استخدم نفوذه لتبنى الإجراءات لترضية المحتجين. لكنهم قد يستمرون يوم السبت المقبل بالتحرك لأنهم يريدون أكثر من ذلك ليس فقط للأجور الأدنى ولكن لجميع الرواتب للطبقة المتوسطة، ويريدون زيادة مستوى التقاعد تماشيا مع ارتفاع كلفة المعيشة.

وقرروا الاستمرار لأنهم لا يثقون بوعود الطبقة الحاكمة وما تردده لهم منذ عشرات السنين. وقد انتخب ماكرون لأنه وعد بأنه سيصلح فرنسا مهما كان الأمر ومهما كان الرفض بوجهه، لكن الشعب الفرنسى تعود منذ سنوات الاعتماد على الدولة لتحسين أوضاعه المعيشية. والآن الدولة أصبحت عاجزة عن تأمين أوضاع معيشية أفضل. فماكرون ظن أن تخفيف عبء الضرائب عن أرباب العمل سيخلق فرص عمل وسيحسن قوة الشعب الشرائية وذلك يأخذ وقتا، لكن محتجى السترات الصفر لن يصبروا، إذ طفح الكيل من عبء الضرائب فثاروا. والآن تلاميذ المدارس ثاروا محتجين على شهادة البكالوريا، وقطاعات أخرى من الشعب جاهزة للتحرك بتشجيع من اليسار المتطرف بقيادة زعيمه جان لوك ميلانشون الذى انتقد ماكرون وجعل من هذا الانتقاد عمله ليلا ونهارا. فقال إن الرئيس ماكرون بدأ بإدانة من قام بالعنف من دون أن يقول أى كلمة عن ضحايا هذا العنف ولا عن أعضاء قوى الأمن الذين جرحوا. وأضاف ميلانشون عن ماكرون أنه أخطأ التقدير عن الفترة التى تمر بها فرنسا فقد اعتبر أنه عبر توزيع القليل من المال سيتوقف الاحتجاج. وقال ميلانشون إن كتلته البرلمانية ليست معنية بالإجراءات التى عرضها ماكرون لأنها لا تمثل أى حل.

ولكن اليمين الديغولى أقر بصواب بعض الإجراءات التى عرضها ماكرون فى خطابه. فكان من المفروض منطقيا أن تهدئ قرارات ماكرون الاحتجاجات ولكن الحراك الشعبى سيستمر. وربما يتوقف الحراك عندما يتعب قطاع العمل والتجار والسياحة من هرب السياح والمشترين على عتبة أعياد الميلاد ونشر جو الكآبة فى المدن الفرنسية. فالمحتجون يريدون تحسين قوتهم الشرائية، لكن هذا غير ممكن بين ليلة وضحاها. وماكرون لا يملك عصا سحرية لذلك، فهو يحاول تحسين أوضاع فرنسا على المدى الطويل. ولكن ثورة السترات الصفر سبقته ولن تنتظر.

وبعض السياسيين من أقصى اليسار واليمين المتطرف يستغلون هذا الاستياء. ولكن ثورة السترات الصفر قد تفقد التأييد الشعبى إذا أدت إلى المزيد من الخسارات لمختلف القطاعات الحيوية فى البلد الذى يشهد باستمرار منذ أول الشهر كل يوم سبت إغلاقات المتاجر والأحياء والتكسير والتخريب والسرقات فى باريس وبوردو وغيرها من المدن الفرنسية.
هذا محكوم بالفشل إذا استمر وسيزيد الحياة فى فرنسا صعوبة للمحتجين وغيرهم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved