الحكم العسكرى.. هل تقدم مصر نموذجاً مختلفاً؟

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 15 يناير 2014 - 8:40 ص بتوقيت القاهرة

تدين الجيوش العربية للطبقة السياسية الحاكمة، مشرقاً ومغرباً، بفتح الطريق أمامها لتولى السلطة من موقع «المنقذ».. كان سوء سلوك تلك الطبقة، سواء على المستوى العام أو حتى على المستوى الشخصى، واختلال علاقتها بالجمهور، أى الشعب، فى طليعة المبررات التى اتخذها الضباط النافذون فى الجيش من أصحاب الطموح للتقدم إلى «استعادة السلطة باسم الشعب من الذين خانوا الأمانة وأفسدوا فى الأرض وسخروا الحكم لأغراضهم الخاصة واضعفوا مناعة الوطن أمام الأعداء».

ولأن «الشعب» كان يعرف هذه المباذل والأخطاء التى يمكن ان تصل إلى حد الخطايا، ولأن الديمقراطية لم تكن عميقة الجذور فى مجتمعات تخلصت بالكاد من المحتل الأجنبى الذى طالما شكل «الحامى» لأبناء الطبقة السياسية، بل وكثيراً ما «اخترعهم» وفرضهم على الشعب «كممثلين لإرادته».

ولأن الجيوش كانت عالماً مجهولاً تحيطه السرية وقدر من المهابة، فضلاً عن أنها كانت «التنظيمات الوحيدة» الشرعية والمشروعة فى البلاد، يسمع بها الناس وعنها أكثر مما يعرفون دواخلها، ولا يرونها إلا فى الاحتفالات والمناسبات الوطنية بنظامها المرصوص وأسلحتها البراقة.. فى حين انهم، مع الأيام، صاروا يعرفون الكثير من المخازى وحكايات الفساد عن الطبقة السياسية البعيدة عن همومهم، بل والتى كانت فى حالات كثيرة مصدر همومهم.

•••

تدريجياً، وعبر التجارب المريرة فى أكثر من بلد عربى، صار ممكناً تصديق المقارنة «بين الذين خانوا مصالح الشعب ومن حاول أن يحميها»... وبين «الفاسدين والأطهار»، وبين «الذين تحوم الشبهات حول علاقتهم بالأجنبى وبين قلعة الوطنية ممثلة بالجيش الذين لم تقدم له الإمكانات المطلوبة وترك ضعيفاً فى مواجهة العدو الصهيونى، وكلف بمهمات لا طاقة له بها على المستوى الداخلى..».

على ان القضية الفلسطينية، أو بتعبير أدق: العجز عن مقاومة المشروع الصهيونى والهزيمة العسكرية الفضائحية أمام «الجيش الإسرائيلى» المجمّع من مختلف أنحاء العالم والمدرب جيداً عبر إشراك بعض تنظيماته فى معارك محددة فى الحرب العالمية الثانية، كانت «المدخل الشرعى» إلى خلع الحكام ملوكاً ورؤساء جمهورية ومنتخبين من أبناء الطبقة الوسطى أو الوجاهات بتهمة التقصير والتسبب فى ما أصاب الأمة والبلاد، قطراً قطراً.

بديهى أن هذه الشعارات والمطالب جميعاً كانت تتهاوى وتختفى مع وصول قادة الانقلاب من الضباط إلى السلطة (وإن ظل النموذج المصرى خارجها لأسباب تتصل بطبيعة الدولة الراسخة فى مصر ثم بطبيعة الدور العسكرى الذى لعبه هذا الجيش فى مواجهة الإسرائيليين مع فارق مريع فى الإمكانات (السلاح والذخيرة والإمداد.. إلخ)... ومع ذلك فقد بقى جيش الدولة ولم يخرج عليها بل عاد إلى القاهرة ليخلع الحكم الملكى بسجله الحافل بالفساد والانكسار أمام الاحتلال البريطانى من قبل حرب فلسطين).

•••

فى التجارب المشرقية كانت السلطة، أولاً وأخيراً، هى هدف العسكريين الذين تحركوا، قبيل الفجر، لمحاصرة القصور جمهورية وملكية وخلع القائم بالأمر وتولى السلطة.

وكان الشعب يتبلغ، عبر الإذاعة وكانت واسطة التواصل الوحيدة اسم الجنرال الجديد الذى سيتولى سدة السلطة (لإنقاذ البلاد من مهاوى الفساد ومن أهل الحكم الذين خانوا الأمانة.. إلخ إلخ).

صارت السلطة هى الهدف الأول والأخير، ومع الأخذ بعين الاعتبار الفوارق بين «الجنرالات» الذين خلعوا الحكام وتولوها بعدهم فى أقطار عدة، إلا أن أحداً من هؤلاء لا يستطيع الادعاء انه قد وصل إلى السلطة «ديمقراطياً»، وانه قد «جسّد إرادة الشعب» عبر انتخابات سليمة وعلى قاعدة برنامج سياسى محدد، وعبر منافسة طبيعية مع حملة برامج أخرى تهدف إلى خدمة مصالح الشعب وتحقيق مطامحه المشروعة إلى تقدم بلاده وتعزيز منعتها.

•••

ليست هذه هى الحال فى مصر التى يتقدم شعبها إلى الاستفتاء، اليوم حول دستورها الجديد، تمهيداً لانتخابات نيابية، ومن ثم رئاسية، سوف تتم خلال مهلة شهور ثلاثة، كما هو مقرر، يتبدى وكأن المرشح الأبرز لتولى السدة فيها هو الفريق أول عبدالفتاح السيسى.

بل إن مشروع الانقلاب العسكرى قد هُزم فى مصر مرتين خلال السنوات الثلاث الماضية: الأولى حين اكتفى «المجلس العسكرى الأعلى» بأن يواكب الجيش انتفاضة الميدان التى كانت ترفض الحكم العسكرى قطعاً، وهى قد عبّرت عن ذلك علناً وسدّت الطرق أمام الطامحين إلى استغلال الحركة الجماهيرية غير المسبوقة، مؤكدة الإصرار على «التغيير الجذري» وعلى تحرير الحياة السياسية من القيود وأسباب التحريم التى ألغت السياسة عملياً وحولتها إلى عملية شكلية بلا روح ولا هدف إلا خدمة السلطان.

أما المرة الثانية فكانت حين هزمت الإرادة الشعبية النظام القديم ممثلاً بأحد وجوهه ذى التاريخ العسكرى فى الانتخابات الرئاسية مقدمة عليه، كما على المرشحين الآخرين، الدكتور محمد مرسى، مرشح الإخوان المسلمين.

كانت تلك لحظة فاصلة فى تاريخ الحياة السياسية المصرية.. إذ تكشفت مجموعة من الحقائق التى حكمت سير الأمور فى السنتين الماضيتين:

لم يكن فى الميدان من القوى السياسية المنظمة وذات الرصيد الجماهيرى من يعبر عن روح الميدان ومطالبه فى التغيير الجذرى بأفق وطنى وتقدمى وعروبى.

نتيجة ضعف القوى السياسية ذات البرامج الوطنية الديمقراطية تبدّى الإخوان المسلمون وكأنهم التنظيم السياسى الوحيد فى مصر، خصوصاً وان الكل يعرف الكثير عن قدراتهم التنظيمية وعن إمكاناتهم المادية الهائلة، وهم اجتهدوا فى مخادعة جماهير الميدان والجيش فى آن معاً.

استطاع الإخوان وعبر سياسة الترهيب والترغيب تحييد الجيش لتأمين فوزهم بالرئاسة كما فى الانتخابات النيابية (البرلمان ومجلس الشورى)، كما استطاعوا تمرير الاستفتاء على دستورهم برغم الاعتراضات الواسعة عليه.. بل ربما كان هذا الدستور الأشوه «الخطيئة المميتة» التى ارتكبها الإخوان، إذ استفز الجمهور المصرى عامة وأكد أن هذا التنظيم التاريخى يعيش فى ماضيه ولا علاقة له بالعصر.

ثم سرعان ما تكشفت الارتباطات الخارجية للإخوان، سواء مع الدول الغربية عموماً وبينها الإدارة الأمريكية، ثم مع «رفاقهم» من الإخوان الذين يقودون الحكم فى تركيا، فضلاً عن العلاقة مع التنظيم الدولى للإخوان المسلمين والشيخ يوسف القرضاوى وكلاهما يستند إلى تمويل قطرى معلن.

ويمكن إدراج موقف النفاق من إسرائيل وقد جسّدته رسالة الدكتور مرسى إلى شيمون بيريز، بما حوته من تعابير لا صلة لها بالكرامة الوطنية، قبل الحديث عن تجاوزها لقضية فلسطين وحقوق شعبها فى أرضه. وهكذا عادت الأمور إلى البداية: الميدان!

•••

وبالطبع فإن انحياز الجيش إلى الميدان هو الذى حسم الموقف، فاستجاب الشعب إلى دعوة الفريق أول عبدالفتاح السيسى ونزلت الجماهير الميدان فى مشهد تاريخى نادر المثال.. وتمّ عزل الدكتور محمد مرسى وخلع حكم الإخوان واعتبار تنظيمهم «إرهابياً».

وها هو الشعب المصرى يقف أمام المحطة الفاصلة: هل يسجل السابقة التاريخية فيختار قائد الجيش رئيساً للجمهورية فى انتخابات حرة؟!

وهل يملك الفريق أول السيسى برنامجاً للحكم يحقق أهداف الثورة؟!

وهل يمكن انضواء الأحزاب الوطنية والتقدمية والتنظيمات التى ولدها الميدان فى جبهة وطنية عريضة تساند هذا الرئيس الآتى من الجيش وتحميه من النرجسية ومن الإحساس الدائم بأنه «المنقذ»، وتمكّنه من أن يكون «رئيساً للشعب كله»، وتنزع عنه عسكريته وتبعده عن السوابق العديدة التى تصدّى فيها عسكريون لأدوار إنقاذية ثم ابتعدوا بعد أداء المهمة (سوار الذهب فى السودان)، أم يكمل مهمته على طريقة الجنرال شارل ديجول فى فرنسا؟!

•••

المهم ألا يكرر الفريق أول السيسى تجارب المشارقة من أقرانه ورفاق سلاحه، سواء فى دمشق أو بغداد أو صنعاء فضلاً عن ليبيا التى تخرج من الضياع إلى التيه. هذا إذا ما قرر، فعلاً، ترشيح نفسه للموقع الذى يتردد المؤهلون لشغله فى منافسة هذا «المنقذ».. ويخافون من تحمل المسئولية وسط هذا الركام من المشكلات السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية التى تحتاج إلى أكثر من معجزة لعلاجها.

من غير أن ننسى أن «الميدان» مفتوح دائماً لأهله القادرين على التغيير، مرة ومرتين وثلاثاً.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved