الشيش الموارب

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 15 فبراير 2018 - 10:20 م بتوقيت القاهرة

في هذا الحي الشعبي من أحياء القاهرة القديمة تتقارب المباني بشدة إلي حد توشك معه أعمدتها أن تتصافح . قبل التطور المذهل في وسائل التواصل الاجتماعي كانت كل شرفة من شرفات المنازل المتقاربة أشبه ما تكون بصفحة من صفحات الفيسبوك كل شئ فيها علي المكشوف، من يقف في الشرفة يتعرف علي أحوال جيرانه من أول ماذا طبخت فلانة أو علانة وحتي مشاكل تعليم الأولاد وغلاء الأسعار. تتخلل النسائم النديٌة الفُرَج الفاصلة بين شرفة وأخري فتحمل معها مشاعر الفرح والحزن والقلق وتبثها بثا مباشرا دون حاجة إلي استعارة هذه المشاعر من رموز إلكترونية علي هيئة وجوه تضحك أو تحب أو تبكي أو تندهش كما صار يحدث لاحقا، لكن مثلما ألغي السيد مارك زوكربيرج خصوصيات البشر وجعلهم يدمنون مشاع العواطف والأخبار والصور كذلك فإن القرب الشديد بين الجيران آذي خصوصياتهم.

***

في هذه الشرفة المواجهة لشرفة صاحبتنا كانت تسكن عائلة بيشوي: أب وأم واثنان من الأبناء. قد يبدو غريبا بعض الشيء القول إن أسرة ما تسكن شرفة لكن هذا تعبير دقيق عن واقع الحال. نظرة أولى على الشرفة تنبئك عن مهنة الأب فالمانكونات البلاستيكية المشوقة مرصوصة بعناية في إحدى زوايا الشرفة، أحيانا تهفهف عليها البلوزات الشيفون وأحيانا أخرى أخرى تكسوها الجاكتات المصنوعة من الصوف السميك ، وفي أوقات الكساد وضيق ذات اليد كانت المانوكانات تظل عارية لكن نظيفة فأبو بيشوي لم يكن يسمح لمصدر رزقه أن يكسوه الغبار قط . من قبل أن تعرف صاحبتنا أن الأسرة في الشقة المواجهة لها أسرة مسيحية كان الصليب الخشبي الأسود الكبير المثبت علي جدار الشرفة كاشف لديانتها، وحين كانت السعفة المجدولة تظهر أسفل الصليب كان هذا ينبه من غيبّته مشاغل الحياة إلي أن عيد الفصح يقترب وأن شم النسيم علي الأبواب. بشكل خاص كانت الشرفة هي المحل المختار لأبي بيشوي ، فيها كان يشرب الشاي كل صباح وكل عصر، وفيها كان يعمل .. يقص ويخيط ويتفنن، وفيها كان يجالس أم بيشوي يثرثران أوقات الصفا ويعتزلها حين يختلفان فيعطي ظهره إلي باب الشرفة ويتكئ علي السور ويشرد في عبوس. انتبهت صاحبتنا الآن فقط إلي أنها لم تُعرِّف الزوجين باسميهما بل عرّفتهما منسوبين إلي اسم الابن :بيشوي، والواقع أن هذا نابع من أن كلا الزوجين كان يُعرَّف نفسه بهذه الصفة وكأنه لم يكن لهما وجود قبل أن يري بيشوي النور، وفيما بعد أضيف سبب جديد لهذا الأمر تزوجت الابنة وهاجر بيشوي وخلا البيت علي الزوجين، وهكذا بدا الانتساب إلي الابن المهاجر وكأنه الحبل السُّري الذي يربط بين الأبوين وبين ابنهما عبر القارات.

***

مع أن علاقة صاحبتنا بجيرانها في الشرفة المقابلة كانت علي ما يرام إلا أن إقامة أبي بيشوي الدائمة في هذه الشرفة كانت تسبب لها بعض الإحراج ، لم يكن بوسعها أن تفتح شيش شرفتها علي آخره فهذا كان ينقله فورا إلي داخل غرفتها ويطلعه علي تفاصيلها .. الفراش ..خزانة الملابس ..التلفزيون ..الشماعة الخشبية الطويلة .. والفوضى المنضبطة التي تلازمها. في بداية حياتها لم تكن تعرف كيف تتعامل مع هذا الوضع فلقد خرجت من بيت ما أن تُفلت خيوط الضوء الرفيعة من طبقات الظلام حتي يفتح أهله نوافذهم علي مصراعيها لتجديد الهواء، استقر في وعيها أن الضوء والهواء متلازمان إلي أن أجبرها مسكنها الجديد علي أن تغيّر ما تربت عليه. حافظت علي شيش شرفتها مواربا إلا فيما ندر، تسمح فرجته الصغيرة بدخول نسمات الهواء وتحفظ لها نطاقا محدودا من حرية الحركة، وبمرور الوقت تأقلمت علي هذا الوضع الجديد وطوت صفحة النوافذ المفتوحة علي آخرها.

***

في أحد صباحات هذا الشتاء التقطت صاحبتنا عبر شيش شرفتها الموارب ذلك البلوڤر الرمادي الذي كان يرتديه دائما أبو بيشوي فوق بيجامته، يغير ملابس النوم ولا يغير هذا البلوڤر أبدا والأرجح أن لديه أكثر من واحد بنفس اللون والشكل، كثير من الناس يفعلون ذلك، لم تهتم . في صباح آخر كانت تزيل آثار عاصفة ترابية غريبة علي شهر يناير وحانت منها التفاتة للشرفة المقابلة فلم يكن هناك، أدهشها غيابه لكن لم تهتم. عندما توالت الأيام ولم يظهر أبو بيشوي بدأت تهتم، هل سافر لزيارة بيشوي ؟ هل يلازم الفراش؟ هل هي مجرد مصادفة ؟ استبعدت الاحتمال الأخير فعلي مدار جيرتها الطويلة لهذه الأسرة لم ينقطع ولم يغب ولم يختف. زحفت الثياب السوداء علي حبال أم بيشوي وملأتها من الحد إلي الحد، انقبض قلبها لكنها كذّبت مخاوفها، من قال إنه هو ؟ . التقت عيناها بعيني أم بيشوي وسألت : من ؟ ردت المرأة بصوت مخنوق : سامح ، ممممم سامح ؟ أيوه أبو بيشوي! أذهلتها السيدة .. ألجمتها .. ألقت بها في قاع بئر تصارع الذكريات وذهبت . اليوم الذي عرفت فيه صاحبتنا اسم أبي بيشوي هو اليوم الذي غادر فيه الشرفة إلي غير رجعة . انتهز جارها فرصة زيارتها أهلها في وجه بحري وانسل تاركا وراءه مانوكاناته وكوبه وبلوڤره الرمادي ، بكوهُ في غيابها .. شيعوه في غيابها .. لكنها الآن تفتقده معهم.

***

لن تعود تخشي أن تفتح شيشها علي مصراعيه ليدخل الهواء ويملأ رئتيها كما كانت تتمني ، ومع ذلك لن تفتحه علي مصراعيه وستبقيه مواربا كما كان.. نعم لن تفتحه لأن عادة جديدة هزمت عادة قديمة والأهم لأن مشهد الشرفة المقابلة بدون هذا الجار القديم يؤلم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved