السياسيون تخلفوا
جميل مطر
آخر تحديث:
الأربعاء 15 مايو 2019 - 9:45 م
بتوقيت القاهرة
سؤال مثير للقلق، هل حقا ما زال هناك بين السياسيين من يعتقد أن مؤسسات الحكم والعمل السياسى المعروفة مثل البرلمانات والأحزاب والنقابات والانتخابات والبيروقراطية الشاسعة تتناسب واللحظة الراهنة فى حياة معظم المجتمعات الإنسانية؟ فإن كانت حقا تناسبها وإن كانت فعلا ضرورية وإن كانت فعلا ناجعة فكيف نفسر للناس، وبخاصة لبلايين الشبان فى جميع أرجاء العالم حال القلق المهيمنة على حياة الأغلبية العظمى من الشعوب، وكيف نفهم ثم نشرح ونبرر هذه الاحتجاجات الكثيرة سواء فى دول الشمال كما فى قارات الجنوب وفى الشرق كما فى الغرب؟
***
استعدادا لتنظيم ثم إجراء حوار موسع جرت حوارات محدودة المشاركة ومحدودة الأسئلة. سألنا عن ظروف نشأة المؤسسات والمفاهيم السياسية التى اخترنا العيش فى ظلها وتلك التى فرضت نفسها علينا. المؤكد أنها لم تنشأ من فراغ ولا فى فراغ. لم تنجبها ثقافة بعينها فى لحظة بعينها وإنما تكونت ثم ارتقت أو تدهورت نتيجة عمليات تلاقح مستمرة عبر التاريخ بين مختلف الثقافات، ونتيجة تطورات فى علاقات اقتصادية واجتماعية وسكانية ودينية. حدث، فى مراحل تاريخية معروفة، أن استحال الانسجام بين مفاهيم ومؤسسات من ناحية ومجتمعات تغيرت من ناحية أخرى بدون أن يقع تغيير جوهرى فى طرف من طرفى هذه المعادلة أو فى الطرفين معا. أخذ التغيير الجوهرى فى بعض هذه الحالات طابع الثورة بسبب فشل جهود التدرج فى تحقيق الانسجام المطلوب.
***
يحدث فى الظروف العادية والتطورات البطيئة أن تتلاقى فى سلام وهدوء أمزجة ومصالح القوى المتململة فى المجتمعات مع أمزجة ومصالح أنصار التغيير بين القائمين على إدارة المؤسسات وصياغة المفاهيم السياسية، فيقع التغيير بسلاسة ورضا الطرفين. ولكن فى أحيان كثيرة سجل التاريخ فجوات واسعة فى فرص التقاء الطرفين ترجمت نفسها فى مراحل قلق وتوترات اجتماعية انتهت غالبا بتغير جوهرى فى أسس العلاقة بينهما. رصدنا فى لقاءات الحوار المبكرة عددا من التطورات والتغيرات على جانبى الحياة السياسية فى مرحلتها الراهنة تشير إلى أن مجتمعات غير قليلة العدد سوف تواجه قريبا تحديات غير عادية وتجد نفسها مجبرة على تفضيل خيارات جوهرية على خيارات تقليدية بدت طويلا وكأنها محسومة وألا أفضل منها. أعرض هنا بعض ما رصدته الحوارات المبكرة.
***
انحسر الدور الحقيقى للبرلمانات والمؤسسات الشبيهة فى غالبية دول العالم. تدرج الانحسار شكلا وسرعة وموضوعا. بعضنا قضى وقتا غير قليل من العامين الأخيرين يتابع عمل وأحيانا لا عمل مجلس العموم البريطانى خلال مرحلة الإعداد لخروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبى. أهمية مجلس العموم بين المجالس المخصصة للعب دور التشريع والرقابة والتمثيل فى الدول التى تبنت هذا النمط من التمثيل البرلمانى بالغة ولا يمكن تجاهلها. خلاصة الحكم المبكر تؤكد انحسار هذا الدور وتتنبأ بصعوبات شديدة سوف تواجه المجالس المشابهة.
استجدّت أمور لم تكن موجودة. لم نعرف أن الوطنية الإنجليزية يمكن أن تتعرض يوما لتحد يكشف ما أصابها من تغيير بل تحول وانشطار فى الرؤية مثل ما أصاب شعوبا أخرى فى أوروبا خاصة والغرب عامة. أن يقول الشعب كلمته فى موضوع الخروج من الاتحاد الأوروبى ثم تفشل الحكومة والبرلمان فى تنفيذ إرادة الشعب نفسه الذى انتخبهما لأقوى دليل فى نظر الناس على خلل عظيم فى نظرية التمثيل. من ناحية أخرى كانت التكلفة الباهظة لهذه التجربة دليلا على العجز الشديد فى أداء الحكومات المنتخبة فى القضايا الصعبة والمعقدة دبلوماسيا.
على الناحية الأخرى من الأطلسى واجهت التجربة التمثيلية تحديا لم يكن أقل شأنا. هناك جاء إلى البيت الأبيض بالانتخاب رئيس أثار الشكوك فى صدق نواياه الديمقراطية. اعتمد الخط الذى سبقته إليه، كسياسى، أحزاب أوروبية عديدة. قضية ترامب، أو إحدى قضاياه، وهى فى الوقت نفسه القضية المستترة فى برامج الأحزاب القومية الأوروبية، تتعلق بالقناعة السائدة فى صفوف قيادات مهمة فى النخب عامة بأن الدولة فقدت مكانها فى مجتمع الدول والأمة فقدت مكانتها بين الأمم، ولا بد من استعادتها بكل الطرق. وإذا حالت القواعد الدستورية والقانونية دون تحقيق هذا الهدف، فإلى الجحيم هذه «الشكليات». أما العجز فى احترام هذه الشكليات فيمكن تعويضه بسياسات «شعبوية».
***
دعونا لا نستهين بصعود الصين كوجه من أوجه المعضلة الغربية. نعرف أن مدارس الغرب الفلسفية هى الأصل فى تاريخ السياسة، أو هكذا لقنوننا ودرجوا هم أنفسهم على اعتناقها جيلا بعد جيل. فرضوا على غير الغربيين قواعد التمثيل والعمل السياسى ومبادئه إن راق لهم فرضها وفرضوا عكسها، أى جميع أشكال الحكم غير الديمقراطى، إن دفعتهم الحاجة والمصلحة. النهوض فى نظر العديد من مفكرى الغرب لن يحدث فى دولة لم تتوافر لها وتتكامل هياكل وثقافة وتجارب الغرب. صعود الصين الراهن لا تنطبق عليه صفة النهضة. روسيا صعدت ونهضت، أما الصين فهى بالنسبة للغرب وإن صعدت فلم تنهض. كان تبنى المؤسسات السياسية الغربية شرطا من شروط النهضة. لم يعد شرطا وعلى الأقل لم يعد شرطا ضروريا، وبخاصة بعد أن فقد الغرب بممارسات قياداته ونخبه أهلية الإصرار على هذا الشرط.
***
هل بيننا من يستطيع أن يقدر عدد الوظائف الجديدة التى سوف تعرض عن نفسها خلال عشرين عاما؟ هناك تقديرات متفاوتة ولكن أقل ما يقال فيها إنها تنقل صورة مجتمعات عمل مختلفة جذريا عن المجتمعات التى نعرفها. نعرف الآن أن نسبة متزايدة من طالبى الوظائف يبحثون عن وظائف لا تتطلب منهم الانتقال من مساكنهم، وفى الوقت نفسه تشير المؤشرات إلى أن نسبة كبيرة من وظائف المستقبل لن تتطلب الانتقال. نعرف أيضا أن كثيرا من أمور عصر الذكاء الاصطناعى حسمت ومسألة الانتقال إلى هذا العصر لم تعد أكثر من مسألة وقت يجرى خلالها فعليا التخلص من وظائف وموظفين وحلول وظائف وروبوتات. ما نعرفه أيضا أن النسبة الغالبة من المشرّعين وأعضاء المجالس المحلية فى معظم الدول غير مؤهلين للبت فى قضايا تتعلق بمستقبل حركة الوظائف فى المجتمع فى ظل الاندماج المحتوم فى عصر الذكاء الاصطناعى. كيف يحتفظ البرلمانيون والممثلون المحليون بمكانتهم ودورهم فى مجتمع هم بعيدون جدا عن التعامل مع طبيعته الجديدة؟
***
لم يعد سرا الفشل الرهيب الذى حققته البرلمانات الحديثة لوقف انهيارات الفساد المتلاحقة فى مجتمعاتها. هناك مبالغة لا شك فيها من جانب القائلين بأن العالم لم يشهد من قبل فسادا بهذا الحجم والتنوع والاتساع، ولكنها مبالغة متناسبة مع التقارير الدولية. هى ربما نفس الدرجة من المبالغة فى وصف حال الإعلام. لا أظن أننا قرأنا عن عصر معقد إعلاميا كالعصر الذى يعيش فيه العالم الآن أو عن فشل برلمانى وتشريعى فى التعامل مع فئة الإعلاميين بل ومع مفهوم الإعلام الحديث. ونسأل هل يأتى يوم يستطيع به البرلمانيون وغيرهم من المشرعين فى أمريكا وغيرها فك الاشتباك الرهيب بين السلطة التنفيذية من جهة والإعلام بناصيتيه، الإعلام التقليدى والسوشيال ميديا من جهة أخرى. الفشل كان علامة المرحلة الماضية، كما هو واضح فى العلاقة بين ترامب والإعلام الأمريكى وواضح أيضا فى أغلب الدول، فهل سيكون أيضا علامة المرحلة القادمة؟
***
عالم الغد معقد وجديد وصلت طلائعه فعلا ونراها الآن مشتبكة مع مؤسسات سياسية لم تتأهل لاستقبالها ناهيك عن عدم الاستعداد للاشتباك معها.