«لا تَنصبْ لى فخ الذكريات»

صحافة عربية
صحافة عربية

آخر تحديث: الأربعاء 15 أغسطس 2018 - 9:15 م بتوقيت القاهرة

«دَعْنَا من حديث الذكريات. لا تَنصبْ لى فخا. لن أقع فيه. أحترم تعلّقك بمهنتك. لكنّ حساباتنا مختلفة، بل متناقضة. أنت تريد حديثا مثيرا لنشره بعناوين مثيرة فى (الشرق الأوسط). ومن حقك أن تحاول. من واجب الصحفى المحترف ألا يكفّ عن محاولة اصطياد الروايات. وأنا لديَّ الكثير منها للأسف. وسبق أن تابعت بعض حواراتك بما فيها مع رجال عملت معهم فى الجيش والحزب والدولة. رواياتهم ضاعفت اقتناعى أننى يجب أن أحمل رواياتى معى إلى القبر الذى لم يعد بعيدا فى مثل سنِّى.
أعرف سلفا الأسئلة التى تدور فى ذهنك. تريد إجاباتى ليتمكّن القارئ من مقارنتها مع روايات اللاعبين الآخرين الذين حالفتهم أو خاصمتهم. أنت تقول: إن من واجبى تجاه الحقيقة والتاريخ أن أقول ما أعرف وما كنت منخرطا فيه أو شاهدا عليه. وبعض تلك المحطات كان شائكا وداميا وصارخا وتسبب أحيانا فى ويلات وضحايا آلمت عائلات وأنهكت بلادا بأسرها. وأنت تعرف أننى كنت أُوصف بالشجاعة والقسوة والتهور. لكننى أصارحك أننى أخجل أن أتحدث، وأخاف.
كنت أتمنى لو كانت بلادى مزدهرة الآن ومستقرة. ولو كان عندى نجاحات أتحدث عنها وإنجازات أبرزها. ولو كان عندى نموذج أضعه فى تصرف أجيال جديدة تهتدى به أو تستأنس فى بحثها عن المستقبل. صدّقنى نحن رجال الماضى المؤلم ويجب أن نتوارى معه. أنت تحاول استدراجى إلى الحديث لأنك فى قرارة نفسك تعتبرنى مرتكبا. ولا ألومك على انطباعك. لقد ارتكبت مع رفاقى أخطاء وخطايا لا يخفف من آثارها أننا نفّذناها تحت ضغط الأحلام المبكرة أو تهور الشباب. نعم لقد ساهمنا فى تحويل بلداننا أكواما من الركام، فى وقت كنا نحلم لها بالقوة والمنعة والوحدة وإيقاظ الأمة واستعادة عظمتها وتعزيز موقعها بين الأمم.
أعرف تماما ماذا ستسألنى وعمّن ستسألنى. أسماء رفاقى تكفى لإثارة اهتمام الصحفى والقارئ. لكن إعادة فتح كل تلك الجروح لا يساهم مطلقا فى وقف الانحدار الرهيب الذى تندفع إليه بلداننا. أسماء رفاقى مثيرة ومخيفة. إنهم أحمد حسن البكر وصدام حسين. على صالح السعدى وحازم جواد. ويمكنك أن تضيف إليهم رموز المراحل. عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف. أعرف أنك ستسألنى أيضا عن ميشال عفلق وأمين الحافظ وحافظ الأسد.
أنا لا أنكر أننى كنت حاضرا ومشاركا. وأعرف أنك ستسأل عن الإطاحة بقاسم وقصة إعدامه فى الإذاعة. والعلاقة اللدودة بين قاسم ورفيقه عارف الذى لم يرحمه وسدد معه الحساب القاتل حين تمكّن. وستسأل بالتأكيد عن نهر الدم بين البعث والشيوعيين. وعن عودة البعث فى 1968. وعن شاب خجول اسمه صدام حسين ارتضى لقب (السيد النائب) إلى أن حان موعد الضربة المدوّية وتحول السيد الرئيس القائد والرجل الوحيد القادر على التصرف بمصير البلاد والعباد.
أخجل أن أروى مذكراتى، وأخاف أن يقرأها أحفادى أو أولادهم، وأن يكتشفوا أننا تركنا لهم بلادا مزروعة بالشِّراك؛ لا تخرج من مذبحة إلا لتدخل فى أخرى. بلاد تعيش دائما على شفير حرب أهلية أو فى صلبها. بلاد تلتهم أبناءها وتدفعهم إلى المقابر أو المنافى أو الإقامة فى رعب دائم.
لا تستنتج أبدا أننا كنا عملاء للأجنبى أو انتهازيين أو مولعين بالقتل والدم. لكن يمكنك الاستنتاج بسهولة أننا شبان لم نكن نعرف العالم ولم نكن نعرف بلداننا أيضا. وأننا توهمنا أن الاستيلاء على الإذاعة يكفى لتغيير مصير البلاد. وأن سيطرة الحزب على كل شيء أمر مقدس يجيز قتل كل من يعارض أو يشكك. وأن من حقنا إرسال المحتجين إلى المشانق أو تركهم يتعفنون فى السجون يشتهون موتا سريعا للإفلات من جحيم التعذيب.
لا أخفى عليك أننى أشعر بالعار حين أرى عراقيين يتضوّرون جوعا فوق حقول النفط بينما وحش الفساد يبدّد خيرات العراق وسيادته وكرامته. أشعر بالعار حين يتظاهر عراقيون مطالبين بالكهرباء. وحين أسمع شكاوى السُّنة من التغيير الديموغرافى. وحين أسمع الأكراد يعتبرون الظلم قدرا يلاحقهم بغضّ النظر عن اسم الحاكم فى بغداد. وأشعر بالألم حين أرى العراق عاجزا عن تشكيل حكومة إلا بعد نَيْل رضا السفير الأمريكى وتوقيع قاسم سليمانى.
كم كنت أتمنى أن أنتظر الموت فى بيتى فى بغداد محاطا بأولادى وأحفادى. وأن يكون لى قبر طبيعى فى بلاد طبيعية. هل كان العراق يعيش ما يعيشه لو عملنا باكرا لقيام دولة طبيعية؟ وهل كانت سوريا تنفجر على هذا النحو لو عملنا على قيام دولة طبيعية فى سوريا؟ لا يصحّ أن ننسى أن سياساتنا وتدخلاتنا ساهمت فى تفجير لبنان الذى كان حديقة عربية بالتعايش والتقدم. وأن ياسر عرفات عانى على يد بعض أشقائه، ما دفعه إلى القبول بما يصعب عليه قبوله أصلا.
لا أخفى عليك أننى أحسد البلدان الطبيعية. البلدان التى لا تحتاج إلى قائد تاريخى. والتى تنفق على التعليم والجامعات أكثر بكثير مما تنفق على أجهزة الأمن وتطوير أدوات التعذيب. البلدان التى تختار التعايش فى الداخل والتعاون فى الخارج.
لا تَنصبْ لى فخا. لن أروى مذكراتى. ما يخيفنى أن البدائل التى أطلّت كانت فاشلة هى الأخرى. ما ارتكبناه يقل عمّا يرتكبه الظلاميون. كنا نحلم بأمة واحدة ذات رسالة خالدة، وإذ بنا نراها مسالخ بشرية تتنزه فيها جيوش الدول الأخرى وميليشياتها. لا مستقبل للعرب إلا فى ظل الدولة الطبيعية. وهذا لا يبدو وشيكا وقريبا.

غسان شربل
الشرق الأوسط ــ لندن

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved