التاريخ عندما يثأر

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأحد 15 أكتوبر 2017 - 8:45 م بتوقيت القاهرة

«يا إلهى إنه يشبه المسيح».
هكذا صرخت سيدة ريفية رأته مقتولا وجثته ملقاه فى حقل بأحراش بوليفيا قبل خمسين سنة بالضبط.
لم تكن تعرف من هو.. ولا ما قضيته.. ولا لماذا قتل على هذا النحو البشع؟
كل ما استلفت انتباهها قدر العذاب الإنسانى على وجهه وسكينة الروح التى أزهقت ـ كأنه مسيح جديد قد صلب.
فكرة «المسيح المعذب» واحدة من أكثر الأفكار المعاصرة إلهاما فى الضمير الإنسانى.
لم يكن «أرنستو تشى جيفارا» قد لقى مصرعه عندما صاغ تلك الفكرة الروائى اليونانى «نيكوس كازانتزاكيس» فى رائعته «المسيح يصلب من جديد».
الفكرة نفسها تتجلى فى العذاب الفلسطينى، الذى يبدو بلا نهاية ـ «مسيح وراء مسيح وراء مسيح»، كما أنشد شاعر العامية المصرى «عبدالرحمن الأبنودى».
أحد الأسباب الجوهرية لتراجع القضية الفلسطينية أنها لا تجد ـ الآن ـ من يتحدث أمام العالم باسم عذابها الطويل مؤثرا ومقنعا.
تأسست «أسطورة جيفارا» على مثاليتها الأخلاقية، فهو بحسب شاعر عامية مصرى آخر «أحمد فؤاد نجم»: «مات المناضل المثال.. يا ميت خسارة ع الرجال.. مات الجدع فوق مدفعه جوه الغابات.. جسد نضاله بمصرعه ومن سكات».
كانت تلك الكلمات، التى لحنها وغناها الشيخ «إمام عيسى» إحدى أيقونات الحركة الطلابية المصرية فى سبعينيات القرن الماضى والأصوات ترتفع بحماس بالغ فى مدرجات جامعة القاهرة تردد خلفه «جيفارا مات.. جيفارا مات» بيتا بعد آخر.
ارتبط فى المخيلة العامة لذلك الجيل مصرع جيفارا «فوق مدفعه» مع طلب تحرير سيناء المحتلة بقوة السلاح، كما طلب نصرة القضية الفلسطينية باعتبارها مسألة مصير مشترك.
لم يكن الطلاب المصريون وحدهم من وجدوا فى المناضل الأرجنتينى الراحل مثالا يلهم ونموذجا يقتدى، فشباب العالم كله وجدوا فيه نفس المعنى.
بعد شهور قليلة من رحيله تصدرت صورة الانتفاضة الطلابية الفرنسية (١٩٦٨) وعلقت على جدران غرف المدن الجامعية، كما حدث فى مصر تماما.
فى تلك الأيام شاعت فكرة «وحدة المصير الإنسانى» ـ إنه حتى يتضامن العالم مع قضايانا لابد أن نتضامن بدورنا مع آمال شعوبه ومآسيه.
غنى الطلاب المصريون وراء «عدلى فخرى» من كلمات شاعر عامية مصرى ثالث «سمير عبدالباقى» لـ«بابلو نيرودا» شاعر شيلى العظيم الذى أغتيل بعد انقلاب الجنرال «أوجستو بينوشيه» على الرئيس الاشتراكى «سلفادور الليندى» خريف (١٩٧٣): «الدم فوق طبق الرئيس الأمريكانى.. الدم فوق صدر الوزير المعجبانى.. يكتب شعاراتنا على حيطان المدينة».
«الوزير المعجبانى» هو «هنرى كيسينجر» صاحب الأدوار الحاسمة فى إجهاض النتائج العسكرية لحرب أكتوبر، التى اندلعت بعد انقلاب شيلى الدموى بحوالى شهر. 
وقد كان مثيرا أن الرجل الذى تولى رئاسة ملف المصالحة فى شيلى قال إنه ليس متأكدا إذا ما كانت الولايات المتحدة لها دور فى الانقلاب أم لا ـ كما استمعت إليه فى لقاء ضيق استضافته أمانة الجامعة العربية.
بدا ذلك تدليسا بدواعى إغلاق الملف الدموى، لكن تظل الحقيقة هى الحقيقة مهما طال الزمن.
بعد خمسين سنة من اغتيال «جيفارا» وقف الرئيس البوليفى «إيفو موراليس» بقرية «فيلاجراندى»، التى اغتيل فيها الثائر الأرجنتينى، ليوجه اتهاما مباشرا للاستخبارات الأمريكية بأنها «اضطهدته وعذبته وقتلته بموافقة الرئيس البوليفى رينى بار منتوس».
من «رينى بار منتوس»؟!
لا شىء، فهو جملة عابرة فى التاريخ لا يذكر اسمه إلا مقرونا بجريمة الاغتيال.
الضحية عاشت والقاتل محض نكرة.
‫بعد خمسين سنة قال التاريخ كلمة أخرى فى بوليفيا، فرئيسها من مدرسة «جيفارا» بوسائل حديثة اقتضتها عملية التحول الصعبة فى أمريكا اللاتينية من حروب العصابات إلى التجارب الديمقراطية.‬‬‬‬
«موراليس» أول رئيس لاتينى من أصل هندى أحمر.
وصوله للحكم يعنى ـ بالضبط ـ أن ما قاتل من أجله «جيفارا» لم يذهب سدى.
الأكثر إثارة ـ كأنه انتقام آخر من التاريخ ـ أن الرجل الذى قيض له تولى رئاسة الكنيسة الكاثوليكية فى روما «البابا فرانسيس»، وهو أرجنتينى مثل «جيفارا» ينتمى إلى «لاهوت الحرية»، وهى حركة اقتربت بالروح والجوهر فى مناصرة المضطهدين من رجال حرب العصابات، وقد كان «جيفارا» رمزهم الأكبر.
عندما ذهب سلفه الأسبق «البابا يوحنا بولس الثانى» فى زيارة رعوية إلى كوبا وقف مع زعيمها «فيدل كاسترو» تحت صورة كبيرة لـ«جيفارا».
كان السؤال مشروعا: أيهما يمثل المسيح؟.. البابا الذى لا تخفى ارتباطاته بالاستخبارات الأمريكية أم الرجل الذى اغتيل وهو يقاتل تلك الاستخبارات وقبضتها الحديدية على مصائر الفقراء؟
قوة «جيفارا» فيما مثله من قيم ومبادئ إنسانية.
اقترب من الثورة الجزائرية وربطته صداقة مع قائد ثورة المليون ونصف المليون شهيد «أحمد بن بيلا».
زار «غزة» عندما كانت تحت الإدارة المصرية وأبدى تضامنا كاملا مع الحق الفلسطينى المهدر.
كانت القاهرة فى ذلك الوقت منارة إلهام لحركات التحرير بالعالم الثالث.
عندما كان مع رفيقيه «فيدل» و«رائول كاسترو» فوق جبال «سيرا ماستيرا» يتأهبون لاقتحام العاصمة الكوبية «هافانا» بدا صدى صوت «جمال عبدالناصر» ملهما وهو يعلن المقاومة: «سنقاتل» أثناء حرب السويس (١٩٥٦).
كان النموذج المصرى موحيا بالأمل، فقد تمكنت دولة من العالم الثالث، استقلت بالكاد، من أن تؤمم «قناة السويس» وأن تتحدى الإرادات الغربية، وأن تصمد فى المواجهات العسكرية، وأن تخرج المستعمرة القديمة إلى العالم لاعبا رئيسيا على مسارحه تمتلك قرارها ومصيرها.
اللافت فى قصة «جيفارا» أن صورته فى التاريخ فاقت حجم دوره.
لم يكن دوره بحجم «فيدل كاسترو» فى الثورة الكوبية، ولا يقارن تأثيره بالأدوار الكبرى التى لعبها «فلاديمير لينين» فى الثورة السوفييتية، أو «ماو تسى تونج» فى الثورة الصينية، أو «هوشى منه» فى الثورة الفيتنامية، والقائمة تطول وتمتد إلى قامات دولية أخرى لعبت أدوارا أكثر تأثيرا وأوسع نفاذا.
لماذا عاش «تشى جيفارا» أطول منهم جميعا فى الذاكرة الإنسانية؟
ببساطة لأنه لخص فى شخصه وتجربته «قوة النموذج الإنسانى»، دعته فكرة الثورة إلى الحرب فى كوبا، وعندما انتصرت غادر السلطة سريعا.
فكر أن يقاتل فى إفريقيا و«ناصر» نصحه ألا يفعل ذلك حتى لا يبدو طرزانا جديدا.
حاول أن ينظم حروب عصابات فى أكثر من بلد لاتينى حتى استقرت به مقاديره فى أحراش بوليفيا، التى لقى مصرعه فيها مصلوبا.
بعد رحيله بسنوات طويلة نقل رفاته إلى مدينة «سانتاكلارا» فى كوبا، مهد ثورته، حيث دفن تحت رعاية «فيدل» باحتفال يليق باسمه.
قبل ذلك انتدب شبان من القارة أنفسهم لتعقب كل من ساهم فى اغتياله.
القصة لا تنتهى هنا فالعذاب الإنسانى يتسع والعدالة تغيب، وألف مسيح يصلب، فى فلسطين المحتلة ومناطق أخرى من العالم العربى والعالم كله دون أن نتعلم الدرس القديم عن وحدة المصير الإنسانى، الذى ألهمه ذات يوم رجل اسمه «أرنستو تشى جيفارا».

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved