مصر وتركيا تتحديان حال الإحباط

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 15 نوفمبر 2012 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

دارت عجلة السياسة الخارجية المصرية. دعونا لا نثير جدلا حول المؤسسة أو القوة التى حركت العجلة، إن كانت داخلية أم خارجية، وإذا كانت وزارة فلا نسأل إن كان لوزارة الخارجية دور أساسى فيها، ولا تسأل إن كان لجناح فى حزب الحرية والعدالة الفضل فى تحريكها تاركا للدبلوماسية التقليدية أداء الوظائف المكملة والشكلية أحيانا. ولا تسأل إن كان حقا ما يتردد عن أن السياسة الخارجية عادت حكرا لمستشارين فى رئاسة الجمهورية، بمعنى ان يكون الرئيس مثل سابقه يفضل أهل الثقة من حزبه وجماعته على أهل التجربة من الدبلوماسيين وخبراء العلاقات الدولية.نسمع الآن نفرا يقول إن الفضل فى تحرك عجلة السياسة الخارجية يعود إلى الدين. يقصد هذا النفر أن انتماء الحزبين الحاكمين فى مصر وتركيا إلى عقيدة أو هوية الاسلام السياسى واهتمام عواصم الغرب وبخاصة واشنطن وبرلين بالطابع الدينى للنظامين الحاكمين فى مصر وتركيا والنظام فى تونس وصعود مكانة حكام قطاع غزة اقليميا ودوليا، كلها وغيرها، يقول هذا النفر من المنظرين، من النماذج التى تؤكد صعود دور الدين فى رسم السياسة الخارجية.

 

•••

 

ومع ثقتى فى أن مجرد تحريك عجلة السياسة الخارجية أمر يدعو فى حد ذاته إلى التفاؤل، إلا أننى من خلال التدقيق فى تفاصيل تطور العلاقة بين تركيا ومصر اكتشفت أمورا تبعث على القلق. أعرف أن الطرفين يراهنان على هذه العلاقة كفاتحة طريق للسياسة الخارجية المصرية، وكقدوة للقائمين على وضع وتنفيذ سياسات أخرى اقتصادية واجتماعية وحزبية، وكدليل له قيمة كبيرة على كفاءة دبلوماسية حزب العدالة والتنمية المسئولة عن رسم سياسة تركيا الخارجية فى عهدها الجديد. ولكن تبين فى الوقت نفسه أن طريق العلاقات التركية المصرية ملىء بالعراقيل سواء فى الجانب المصرى منه أم فى جانبه التركى.

 

●●●

لا تخفى مشكلات الجانب المصرى فى هذه العلاقة الثنائية، فالنظام الحاكم فى مصر الذى يتفاوض الآن مع الجانب التركى ويستعد للتوقيع على اتفاقات «استراتيجية» تلزمه وتلزم مصر مستقبلا بتنفيذ تعهدات وتحمل مسئوليات، هذا النظام لم تكتمل بعد مكونات شرعيته الديمقراطية. مصر حتى الآن، وبعد شهور من خطوة الانتخابات الرئاسية، وهى خطوة مهمة ورئيسة فى النظام الديمقراطى، إلا أنها تظل دولة تفتقر إلى هيئة تشريعية منتخبة وقواعد مستقرة تحكم العلاقة بين قوى النظام وقوى المعارضة وميثاق قيم يجسر الفجوة بين جماعات الاسلام السياسى وجماعة السياسة المدنية.

 

بمعنى آخر، مازال الشارع والرصيف والميدان مواقع قياس للرأى والرأى الآخر وساحة تفعيل أو إبطال القرار السياسى. أتصور أن كثيرا مما سيوقعه الطرفان المصرى والتركى من اتفاقيات ووثائق سوف يبقى فاقدا الشرعية الكاملة والثقة فى إمكان تنفيذه أو استمرار الالتزام به إلى أن يكتمل البناء المؤسسى فى النظام الديمقراطى فى مصر.

 

يقف فى مقدمة عناصر صنع السياسة الخارجية المصرية فى حالتها الراهنة، مشكلة تعدد أشكال وممارسات التطرف لدى بعض القوى الإسلامية التى تدور حاليا فى فلك الحزب الحاكم أو محسوبة عليه. المشكلة هنا تتجاوز حدود التعددية داخل السلطة الحاكمة وفق الأسس المتعارف عليها فى الدول والمؤسسات الديمقراطية، والمثال على ذلك مواقف أفراد، هم فى نظر الرأى العام وكذلك فى نظر الدبلوماسيين الأجانب المعتمدين فى مصر محسوبين على النظام الحاكم من قضايا كثيرة منها على سبيل المثال موقفهم من مشاركة «الدولة» فى مصر فى أعياد الاحتفال بذكرى أتاتورك وقيام الجمهورية العلمانية التى أسقطت نظام الخلافة وأقامت الدولة الحديثة، الدولة القدوة بشكلها الحالى للنظام الحاكم فى مصر..

 

لا يوجد، حتى الآن، ما يضمن ألا يتكرر هذا الموقف فينعكس سلبا على العلاقة بين البلدين خاصة أن أصحاب هذه المواقف هم شركاء فى تنفيذ السياسة إن لم يكن فى صنعها، أو أنهم قادرون على تجسيد قوة كبيرة للضغط على حكومة الحزب الحاكم لوقف تنفيذ سياسة أو قرار. لذلك لم أفاجأ بما ذكره خبير فى الشئون السياسية التركية عن أن المفاوض التركى سوف يضع من الشروط والقيود فى الاتفاقيات ما يعتقد أنه يضمن له تفادى الإضرار بالمصالح التركية فى حال صدقت التوقعات وذهب المتطرفون الدينيون فى الجبهة الإسلامية الحاكمة فى تطرفهم إلى أبعد مما هو معقول ومسموح.

 

●●●

 

أمامنا على الجانب الآخر حكومة وقيادة حزبية قضى مستشاروها سنوات عديدة يخططون لسياسة خارجية تركية حديثة وجريئة بل ومغامرة فى العالم العربى، كان أحد أهدافها فى البداية دعم الدبلوماسيين الأتراك فى مفاوضاتهم مع الأوروبيين، أو على الأقل تعوض عن أحلام لن تتحقق لو فشلت المفاوضات وأصر الأوروبيون على رفض منح الأتراك الهوية الأوروبية. أذكر كيف كانت الأحلام كبارا على جميع المستويات فى تركيا. وبالفعل كان نجاح السياسة الخارجية الجديدة فى البداية مبهرا. كان رائعا بل مذهلا فى سوريا، وليبيا، وحتى فى مصر، رغم شكوك النظام السابق وخوفه من فتح أبواب مصر ونوافذها على أصوات طرق صادرة من قوة إقليمية صاعدة فى الشرق الأوسط.

 

الأوروبيون أنفسهم انبهروا بكفاءة الأتراك وجرأة سياستهم الخارجية الجديدة، واعتبروا هذا النجاح رصيدا يحسب لهم مدركين وبحق وزن تركيا وإن لم تنضم مستقبلا إلى الاتحاد الأوروبى لأنها تظل «غربية» بحكم عضويتها القوية فى حلف الأطلسى. وبالفعل قدم الأمريكيون التشجيع اللازم للسياسة التركية الجديدة فى العالم العربى أملا فى أن تنشئ هذه السياسة ندا معقولا للنفوذ الإيرانى المتصاعد فى الإقليم.

 

●●●

لذلك لم يكن تطورا مستحبا، بل لعله كان خيبة أمل كبيرة، ما حدث للاستثمارات التركية فى ليبيا، والصدع الذى حدث فى علاقات البلدين خلال الثورة على القذافى والسباق الفرنسى ــ البريطانى ــ الأمريكى لفتح ليبيا ورسم مقدراتها. قيل إن تركيا أخطأت حين ترددت فى غزو ليبيا ضمن قوى حلف الأطلسى، لكنى أقول إنها أحسنت صنعا وإن تكبدت خسائر اقتصادية لأنها تلقت فى الأزمة الليبية الدرس الأول فى سلسلة دروس التعامل مع النظام الإقليمى العربى وهى مستجدة عليه. كان درسا قاسيا ونقطة سوداء فى صفحة كان عنوانها، «سياسة خارجية بدون مشاكل».

 

لم تمض أسابيع قليلة إلا وكانت تركيا تتلقى درسها الثانى فى سوريا. هنا يجب أن نقر بأن سجل العلاقات بين الأتراك والسوريين شديد التعقيد. لا يتعلق الأمر فقط باختلاط الثقافات والطوائف والأعراق، وإنما يتعلق أيضا بمزيج فريد من التاريخ والجغرافيا والإعجاب والرفض والحب والكره والكبر والتواضع والمال والعواطف والحرب والسلم. هذه التناقضات تبدو أكثر وضوحا إذا وضعت فى سياق مقارن، بين العلاقات الدافئة التى توطدت بين البلدين قبل نشوب الثورة فى سوريا والعلاقات الراهنة التى وصلت إلى حد استعداد الجانبين للاشتباك المسلح.

 

أتصور أن التجربة الجديدة لتركيا فى العالم العربى محبطة. لا أظن أنه كان فى حساب داود أوغلو وقوع احتمالات من قبيل ما حصل لتركيا فى ليبيا وما يحدث لها فى سوريا والعراق وإلا ما كان أطلق على مشروعه سياسة خارجية بدون مشكلات. أعتقد أنه ربما وضع فى حسابه اعتبارات عاطفية تتعلق بالدين والحنين إلى العظمة العثمانية ورد كيد بروكسل وبرلين وساركوزى وكلها أمور تصب فى خانة شعبية الحزب الإسلامى. أخشى أنه يوجد فى تركيا، حسب ما أقرأه فى الصحافة التركية والأوراق البحثية، من يتوقع مشكلات داخلية أكبر بخاصة فيما يتعلق بالأقليات وفى مجال الحقوق والحريات، لأسباب غير قليلة العدد ولكن يأتى فى صدارتها الإحباط الذى يحيط بالتجربة الإسلامية التركية فى العالم العربى.

 

●●●

أفهم حاجة كل بلد من البلدين إلى الآخر بعد أن اكتشف الحزبان الحاكمان أن العالم العربى ليس مجرد ساحة خواء فى انتظار بطل يحط فيها مستخدما التاريخ أو الدين، أو كلاهما معا. هما الآن يكتشفان معا حاجتهما الماسة إلى بطل من الخارج يحمى لهما إسلامهما المعتدل فى مواجهة قوى دينية تزحف لإفساد ما يدبران.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved