أخبرنى يا غريب

تمارا الرفاعي
تمارا الرفاعي

آخر تحديث: الأربعاء 15 نوفمبر 2017 - 9:20 م بتوقيت القاهرة

كثيرا ما يحدثنى أشخاص أجانب ألتقى بهم من خلال عملى عن رحلاتهم إلى القاهرة أو إلى دمشق حين أقول إننى سورية أعيش فى القاهرة، حتى أصبح لدى مخزون هائل من القصص عن أماكن هؤلاء الزائرين المفضلة، من متاحف أو مزارات أو مطاعم أو حارات ضيقة أعتبرها عصية على دخول الغرباء إليها. أصبح باستطاعتى أن أخمن القصة التى سوف يقولها الشخص حين يبدأ حديثه بـ«كم أحببت القاهرة (أو دمشق أو حلب) حين زرتها منذ سنوات».
***
سوف يتحدث الغريب عن مظاهر الحياة فى الشارع، وعن حسن استقبال الناس له، سوف نمضى دقائق سريعة نعرج فيها على بعض الأماكن الأثرية التى أعترف أننى لم أزر الكثير منها، فمن منا قد قام فعلا بواجبه تجاه كل الأماكن الأثرية فى بلده. سوف يطلعنى المسافر على حر الصيف كأننى لم أعشه كل سنة، وعلى طيبة الناس وكأنى لم أكبر بينهم. سوف يأخذنى بلمح البصر إلى سوق طويلة يعرض الباعة على طرفيها بضائع يصعب على اليوم أن أعددها إنما تلعب أشكالها وألوانها مع ذاكرتى لعبة الاستغماية ويصلنى صوت بائعينها وهم يدعون السائح أن يلقى نظرة فقط. «لا تشتر، انظر إلى جمال الأشياء». 
***
سوف تظهر لى الحارة الضيقة كما يراها الغريب، قديمة، مشبعة بالحكايات، تخيم عليها رائحة بيوت أهلها. سوف يشرح لى كيف يترك أهل الحارة فى دمشق باب الدخول نصف مفتوحا، «موارب» كما يقولون هناك، وكيف أنه استرق النظر، كما كنت أفعل أنا، إلى داخل المنزل. وسوف أتساءل عن عدم اكتراثه لخصوصية السكان رغم أنه يدافع عن الخصوصية بشراسة فى بلده. للأمانة أنا أيضا أدافع عن الحق فى الخصوصية وفى الحماية من أعين الفضوليين، إنما أبطئ من سيرى حين أمر أمام منزل بابه موارب، أدخل ببصرى إليه وأسحب نفسا عميقا أتعرف فيه على عادات العائلة. قهوة الصباح محمصة، لا بد إذا أن فى البيت من يحب القهوة قوية النكهة. فى الجو رائحة سكرية، هل هذا موسم مربى المشمش؟ هل تعقد صاحبة البيت الفاكهة مع السكر فوق نار هادئة قبل أن تمده فى الشمس؟
***
أعود إلى الغريب وتفاصيل رحلته إلى ديارى، لا أعرف إن كانت تفاصيله تشعرنى بالملل من كثرة تكرارها، أم أن ما زال فى داخلى مخزون كبير من الحب لمدن قاسية على أهلها وعلى حاراتها وشوارعها فترانى أمتص كلماته كإسفنجة بغية أن أتصالح مع أماكن كثيرا ما كنت أشعر فيها أننى أختنق. أسمعنى كلماتك يا غريب، وقد سبقك الكثيرون من قبلك، سوف تداعب الكلمات أذنى كموسيقى أعرف نغماتها فأدندن معها، سوف أرفع لك حاجبا واحدا حين تتغنى بكرم «الناس المحليين» فأنا منهم، محلية، من هناك، رغم أننى حاليا غاضبة أيضا من هناك ومنك، أنت الذى تمتلك ترف أن تحب كل ما هو محلى وتعود إلى كل ما هو منظم. تمتلك رفاهية أن تنبهر بما أحبه أنا أيضا دون أن يطالك ما ينتقص من خصوصيتك أو رفاهيتك أو حقوقك.
***
أتعرف؟ أنت تزعجنى أيها الغريب، بوصفك الساذج لمدق وجدت نفسك فيه بالصدفة فجلست على كرسى من القش فى قهوة ولم تدفع حساب الشاى لأن «السكان المحليين كرماء». تزعجنى بتكرار حكايات من أخبرنى من قبلك عن منظر الغروب من على قارب شراعى يتهادى فوق النيل.
لا أعرف كيف أشرح لك هذا التناقض بين فرحتى بنظرتك إلى مدينتى وشعورى بالفخر لأنها أبهرتك، وبين ضيقى من قصصك وضيقى من أن ما أبهرك هو عراقة مدينتى وتاريخها الذى تقرأ قصصه على الحيطان وتشم رائحته فى كل زاوية فتحدثنى عنه وكأنه حيوان من فصيل غريب وأنا قد روضته من زمان بل تطبعت به. أنت لا ترى السم الذى ينفثه هذا الحيوان حين يغضب فيختنق كل من حوله. 
***
تظهر لى فجأة جدة من خلف الباب الموارب، تبتسم فيختفى الغريب. تفتح الباب وتدعونى للدخول إلى الدار فأرى فنجانين من القهوة يتوسطان طاولة صغيرة. شعر الجدة أبيض وهى عقصته فى أسفل عنقها وقد زينت أذنيها بقرطين من الذهب. تحكى لى ونحن نشرب القهوة عن شخص أجنبى مر بحارتها منذ أيام فدعاه زوجها لشرب الشاى بعد أن رآه يمد عنقه ليختلس النظر إلى باحة المنزل. «تخيلى فكر بالأول أنه بدنا نخطفه» تقول وهى تضحك. ولكن يبدو أن الغريب حين جلس معهم وشرب الشاى أعجبه الوضع فقبل دعوتهم على الغذاء. «أكل ملوخية» تعطينى الجدة تقريرا بالواقعة، فتقلد لى الشاب وهو يتعرف على الملوخية المطبوخة مع الدجاج للمرة الأولى. 
***
هو نفسه، أو غيره، لا يهم، يحكى لى عن كرم أهلى، أهل المدينتين خاصتى، فأسمعه. أهز رأسى، أضع كلماته على صور أخذتها بعدسة ذاكرتى، فى أيام كنت مغرمة بالمدينتين كما يكون أحدنا فى أيام غرامه الأولى، قبل أن يغوص فى علاقة مركبة يرى فيها أوجه قد لا تعجبه فى من يحب.
أخبرنى يا غريب عن مدينتى، دعنى أحبها من جديد.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved