فكرة التقدّم من منظور ثلاثة تساؤلات

العالم يفكر
العالم يفكر

آخر تحديث: السبت 15 ديسمبر 2018 - 10:50 م بتوقيت القاهرة

نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب «زكى الميلاد» ــ رئيس تحرير مجلّة الكلمة السعوديّة ــ حول مناقشة ثلاثة تساؤلات هامة فى المجال العربيّ الحديث والمُعاصِر والتى يُمكن من خلالها مُقارَبة فكرة التقدّم بمنظورات مُختلفة، مع ما بين هذه التساؤلات الثلاثة من تفاوت من ناحية الشهرة وأفق التداوُل، وكذا من ناحية الفاصل الزمنيّ الذى يتخطّى العقود من الزمان.

هذه التساؤلات الثلاثة وبحسب تعاقبها الزمنيّ هى:

أوّلا: التساؤل الذى طرحه الأديب اللّبنانى شكيب أرسلان (1869ــ1946م)، وتحدَّد بهذا النحو: لماذا تأخَّر المسلمون ولماذا تقدَّم غيرهم؟ واختاره عنوانا لكِتابه الوجيز الصادر سنة 1930م.

ثانيا: التساؤل الذى طَرحه العالِم الهندى الشيخ أبوالحسن النّدوى (1914ــ1999م)، وتحدَّد بهذا النحو: ماذا خسر العالَم بانحطاط المُسلمين؟ واختاره كذلك عنوانا لكِتابه الشهير الصادر سنة 1950.

ثالثا: التساؤل الذى طَرحتُه حديثا وأنسبه لنفسى، وتحدَّد بهذا النحو: ماذا كسب المسلمون من تقدُّم العالَم؟ واخترتُه ليكون عنوانا شارِحا لكِتابٍ ما زال فى طور الصدور.

مَن يتأمّل فى هذه التساؤلات الثلاثة، يرى أنّ كلّ واحد منها له بلاغته البيانيّة، وبنيته الدلاليّة، وحكمته النظريّة، وزاويته التحليليّة، وشبكته التفاعليّة، وهى العناصر والأبعاد التى لفتت الانتباه لهذه التساؤلات، وحفَّزت على العناية بها، وجَعلتْها فى دائرة التذكّر وبعيدة عن الخفاء والنسيان.

وحتّى تتكشّف صورة هذه التساؤلات، ويتّضح ما بينها من فروقات ومُفارقات قد تأتلف وقد تختلف، نحن بحاجة إلى التوقّف عندها بطريقة تحليليّة تشرح بنيتها وحكمتها وأُفقها، وتقترب من حقلها الدلالى.

التساؤل الأوّل: لماذا تأخّر المسلمون ولماذا تقدَّم غيرهم؟

جمع هذا السؤال ما بين بلاغة المبنى وقوّة المعنى، ويُعَدّ من أكثر التساؤلات نجاحا فى الأدب العربى الحديث والمُعاصر، ويصلح من هذه الجهة أن يكون نموذجا للسؤال الناجح، ويحقّ أن يُضرب به المثل على ذلك، فلو أردنا البحث عن الأسئلة التى عُرف عنها النجاح والتفوّق فى المجال العربى الحديث والمُعاصر، لكان هذا السؤال فى المقدّمة.

ومن أهمّ المقاييس الدالّة على نجاح هذا التساؤل وتفوّقه، كونه سؤالا لم يُستنفَد أو يُستهلَك، ولم يُصبح سؤالا باليا وعتيقا وقديما، بل ما زال سؤالا حيّا وحاضِرا ومؤثّرا، ويجرى التعامل معه كما لو أنّه سؤال اليوم وليس سؤال الأمس، وبوصفه سؤالا حديثا ومُعاصرا وأكثر حداثةً ومُعاصرة من العديد من التساؤلات الأخرى التى طُرحت وتُطرح فى وقتنا الرّاهن.
أمّا الذى جَعل هذا السؤال يكون باقيا وحاضِرا ومؤثِّرا، فهو طبيعته المركَّبة، وطابعه المُقارن، ولو لم يكُن بهذه الطبيعة وبهذا الطّابع لما اكتسب صفة البقاء والحضور والتأثير، ولو جاء السؤال مُكتفيا بالمقطع الأوّل لماذا تأخَّر المسلمون؟ لكان سؤالا عاديّا من جهة، وناقصا من جهة أخرى.

عاديّا، لأنّ التساؤل عن: لماذا تأخّر المسلمون؟ من السهل التنبّه له، ومن البساطة الحديث عنه، ولكونه أيضا تساؤلا مطروحا ومُتداولا بهذه الصيغة التى تفتقد إلى عنصر الإثارة والدهشة، العنصر الذى يرفع من قيمة السؤال، ويدفع به نحو المَجال التداولى، وبه تتحدَّد حيويّة السؤال وديناميّته.

وناقِصا، لأنّه لا يكفى معرفة لماذا تأخّر المسلمون؟ فالإجابة عن هذا السؤال تكون ناقصة ومبتورة من دون معرفة لماذا تقدَّم غيرهم؟ وذلك راجع إلى أمرَين مُتلازمَين، الأمر الأوّل له طبيعة سننيّة، والأمر الثانى له طبيعة موضوعيّة.

بشأن الأمر الأوّل ذى الطبيعة السِننيّة، فمِن الواضح أنّ قوانين التأخّر هى غير قوانين التقدّم، بمعنى أنّ التأخّر يكون محكوما بقوانين بسببها يحصل التأخّر، وعند حصوله لا بدّ من النظر إليه على أساس هذه القوانين. وهكذا التقدّم يكون محكوما كذلك بقوانين بسببها يتحقَّق التقدّم، وعند تحقّقه لا بدّ من النظر إليه على أساس هذه القوانين.
فلا يكفى معرفة قوانين التأخّر، بل لا بدّ من معرفة قوانين التقدّم أيضا، وبحسب هذه القاعدة، لا يكفى معرفة لماذا تأخَّر المسلمون؟ السؤال الذى تنطبق عليه قوانين التأخّر، بل لا بدّ كذلك من معرفة لماذا تقدَّم غيرهم؟ السؤال الذى تنطبق عليه قوانين التقدّم.

وبشأن الأمر الثانى ذى الطبيعة الموضوعيّة، فإنّ التأخّر والتقدّم لهما واقع وموضوع متحقِّق على الأرض فى داخل عالَمنا، وينبغى النظر لهما فى داخل عالَمنا، وليس خارجه أو بعيدا عنه.

وأنّ التأخّر والتقدّم الذى نقصده هو ما نراه حاصلا فى واقعنا اليوم، الواقع الذى يجعلنا نتنبّه دائما وباستمرار إلى حالة الشعور بالتأخّر من جهة، والحاجة إلى التقدّم من جهة أخرى، وتقدُّم الغير هو الذى ينبِّهنا إلى تأخّرنا، ولولا تقدُّم الغَير لما تنبَّهنا نحن إلى تأخّرنا.

التساؤل الثانى: ماذا خسر العالَم بانحطاط المُسلمين؟

اختار الشيخ النّدوى هذا التساؤل عنوانا لباكورة مؤلّفاته، وهو الكِتاب الذى عرف واشتهر به فى المجال العربى، بخاصّة أنّه أصدره فى القاهرة عن طريق لجنة التأليف والترجمة والنشر، وأشرف على طباعته فى وقتها الكاتِب المصرى أحمد أمين (1887ــ1954م).

فى سنة 1981م عند كتابة مقدّمة الطبعة الثالثة عشرة من الكِتاب، أى بعد ما يزيد على ثلاثة عقود، وعند النظر من جديد فى موضوع الكِتاب، اعتَبر الشيخ النّدوى أنّ موضوعه كان طريفا ومُبتكرا، وهذا فى نظره من أسباب انتباه كثير من الناس له، وإثارته لدهشة الكثير منهم.

وأراد النّدوى من هذا التساؤل، تجاوُز الإطار التقليدى الذى فُرِض بحسب قوله، على الكِتاب والمؤلّفين العرب والعجم، الذين اعتادوا النَّظر إلى المُسلمين من خلال العالَم، فى حين أنّه أراد النظر إلى العالَم من خلال المُسلمين، بخلاف ما سمّاه المنهج الفكرى العامّ، وأسلوب البحث الدائم والمُتّبع.

ولهذا يرى النّدوى أنّه عوضا عن التساؤل عن: ماذا خسر المسلمون بسبب نهضة الغرب الحديثة؟ وماذا خسر المسلمون بسبب الثورة الصناعيّة الكبرى التى حصلت فى الغرب؟ وغيرها من التساؤلات التى تتّصل بهذا المنهج، عوضا عن ذلك تساءَل النّدوى متقصّدا: ماذا خسر العالَم بانحطاط المُسلمين؟ مُنطلقا من خلفيّة أنّ المُسلمين هُم الفاعِل العالَمى المؤثِّر فى مجارى الأمور فى العالَم كلّه.

وفى وقتٍ لاحق، ومن منظورٍ نقديّ وتقويمى مُقارن، وجَد الدكتور رضوان السيّد فى كِتابه «سياسيات الإسلام المُعاصر.. مُراجعات ومُتابع» أنّ تساؤل النّدوى جاء معبِّرا عن تحوّلٍ وَصَفه بالانكماشى فى طريقة فهْم المسألة الحضاريّة الكبرى، جعلت من تساؤل النّدوى يتقدّم على تساؤل شكيب أرسلان لماذا تأخّر المُسلمون ولماذا تقدَّم غيرهم؟

إذا صحَّ هذا التقدّم الذى يقول به الدكتور السيّد، فإنه لم يحصل بالتأكيد نتيجة تفوّق تساؤل النَّدوى، لا من الناحية البلاغيّة، ولا من الناحية الدلاليّة، كما لم يحصل نتيجة الفارق الزمنى الذى يفصل بينهما، وكون تساؤل النَّدوى أكثر حداثة من هذه الناحية الزمنيّة، ولا حتّى نتيجة اعتبار أنّ تساؤل أرسلان قد فَقَد بريقه واستَنفَد أغراضه وانخفَضت قيمته، وإنّما حصل نتيجة تغيّر فى الروح العامّة التى جعلت الفكر العربى والإسلامى ينفصل ويتباعد عن روح عصر الإصلاح العربى والإسلامى.

وهنا نقف على الفارق الجوهرى والبنيوى ما بين التساؤلَين، فتساؤل أرسلان ينتمى إلى روح عصر الإصلاح العربى والإسلامى الذى كان قريبا منه، ومتّصلا به، ومُنخرطا فيه، والمسكون بهاجس التأخّر والتقدّم، فى حين أنّ تساؤل النَّدوى ينتمى إلى روح ما بعد عصر الإصلاح الذى كان قريبا منه، ومتّصلا به، ومُنخرطا فيه، والمسكون بهاجس الهويّة والتراث.

التساؤل الثالث: ماذا كسب المسلمون من تقدّم العالَم؟

تقوم فلسفة هذا التساؤل على أساس استعادة العلاقة مع فكرة التقدّم، وتغليب هذه الفكرة، وإعطائها صفة الأفضليّة، وتحريكها وإدماجها فى مَجالنا التداولى، والعمل على تحويلها إلى أن تصبح فكرة مركزيّة فى خطابنا الفكرى والثقافى، وذلك بعد أن تراجَعت هذه الفكرة وانكمشت وكادت تغيب وتتلاشى.

وفى هذا النطاق كذلك، يُحاول هذا التساؤل أن يكون التقدّم هو منظورنا إلى العالَم، نريد تحصيل التقدّم من العالَم، ونُواكب العالَم فى تقدّمه، فالعالَم يتقدَّم من حولنا ويشهد ثورات كبرى ومُتلاحقة تثير الدهشة والإعجاب، ونحن فى مكانٍ آخر، كنّا وما زلنا على هذا الحال منذ أن مرَّت علينا الثورة الصناعيّة الكبرى فى أوروبا مطلع القرن العشرين، إلى هذا الوقت الذى تمرّ علينا فيه الثورة الصناعيّة الرابعة.

الثورة التى من شأنها كما يقول مؤسِّس منتدى دافوس الدولى كلاوس شواب فى كِتابه «الثورة الصناعيّة الرابعة» الصادر سنة 2016، أن تغيِّر ليس فقط شكل الصناعات وطُرق الإنتاج، ولكن أيضا المنظور المعرفى للبشر تجاه الأشياء بصورة عامة.
والمُفارقة المهمّة فى هذا التساؤل هو أنّه من ناحية الروح العامّة يتقارب مع تساؤل أرسلان من جهة، ويتفارق مع تساؤل النّدوى من جهة أخرى، يتقارب مع تساؤل أرسلان فى تغليب فكرة التقدّم، ويتفارَق مع تساؤل النَّدوى فى طريقة النظر إلى الذّات، وطريقة النَّظر إلى العالَم.

النص الأصلى https://bit.ly/2PD9LC2

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved