شروق صحيفة

عبد العظيم حماد
عبد العظيم حماد

آخر تحديث: الإثنين 16 فبراير 2009 - 1:35 م بتوقيت القاهرة

 رغم كل ما أصاب الصحافة المصرية من نكبات سياسية المنبع، واقتصادية ومهنية النتائج، فقد كنت أعزى نفسي كأحد أبناء المهنة ــ بأن صحافتنا لم تنحدر في أي مرحلة من تاريخها إلى حضيض انحدرت إليه صحف عربية وأجنبية أخرى، تحت وطأة أنظمة الحكم الشمولية، وبقيت الصحف المصرية في كل العهود ــ وحتى في أشدها تعديا على حرية النشر ــ قادرة على الاحتفاظ بحد أدنى معقول من التواصل مع الرأي العام، والتعبير عنه، وعلى مقاومة الغزوات السياسية القادمة من خارج المهنة.

لننظر إلى الصحف الصادرة في جوارنا الإقليمي، فهل نجد حاليا صحيفة تصدر في داخل بلدها تستطيع أن تفعل ما تفعله أصغر صحيفة مصرية في مواجهة السلطات، باستثناء الصحافة اللبنانية طبعا، وإذا عدنا قليلا إلى الوراء لوجدنا أن صحيفة الأهرام كانت واحدة من أفضل عشر صحف على مستوى العالم ــ في تصنيف الجهات الدولية المعنية ــ في الستينيات، التي كانت حقبة المد الشمولي في النظام الناصري، وذلك في وقت كانت فيه الصحف من كوبا إلى الصين مرورا بأوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي، والدول العربية الثورية إما مجرد نشرات حزبية كالحة، وإما نصوص مقيتة في عبادة الحاكم و الأيدلوجية.

ما الذي حفظ للصحافة المصرية هذه الخصائص، وسط تلك النكبات، ودون إنكار لفداحة الأذى الذي أصابها؟
إجابة واحدة، لا أظن أن هناك من يختلف معنا حولها، وهى الرجال العظام والنساء العظميات من الصحفيين والصحفيات، والتقاليد المهنية الأعظم، التي أرساها هؤلاء بتفاعل الرأي العام معهم عبر حقب مديدة منذ تأسست مصر الحديثة في بدايات القرن التاسع عشر.

ليس معنى ذلك أن الصحافة المصرية كانت خالية من العيوب والسلبيات، وهى ترسى هذه التقاليد، ولكن المعنى أنها تغلبت عليها بصفة عامة في العهود الليبرالية، وغالبتها بنجاح أحيانا في عهود ثورة يوليو، فمن ينسى قول العقاد ــ كاتب الوفد الأول ــ للنحاس باشا زعيم الحزب والأمة عندما أمره الباشا بوقف حملاته على حكومة توفيق نسيم لحسابات سياسية معينة: «إذا كنت أنت زعيم الأمة بالانتخاب، فإني كاتب الأمة بالحق الإلهي»، ومن منا لا يمتن للدور التنويري للسيدة فاطمة اليوسف ولشجاعتها في الدفاع عن رؤيتها السياسية والاجتماعية أمام أعتى المؤسسات والشخصيات.. وكيف نهمل الدرس الذي لقنه للأجيال التالية شيخ الصحافة الحديثة في مصر محمد التابعي، عندما رفض أن يسافر بدعوة من السراي لتغطية رحلة الملك فؤاد إلى أوروبا، وسافر على حساب صحيفته، ثم إذا به يفاجأ بجلالة الملك على سطح السفينة في نزهة الصباح المبكر، فيحول وجهه إلى الناحية الأخرى ــ قبل أن يراه الملك ــ حتى لا يضطر إلى الانحناء له كما كان يحتم البروتوكول في ذلك العصر.

وفى عهود ثورة يوليو كانت الأهرام كما قلنا واحدة من أفضل عشر صحف على مستوى العالم بفضل شيخ الصنعة الأستاذ محمد حسنين هيكل وزملائه وتلاميذه، وكانت مجلة روزاليوسف هي المدرسة الأم لصحافة المجلات، التي ازدهرت في بيروت، وظلت «روزا» في مصر ترتاد لنا آفاق التجديد في الفكر والأدب والاجتماع، وكانت أخبار اليوم لا تزال قادرة على التعبير عن حركة وأفكار وفوران الحياة اليومية للشعب من عمال التراحيل، حتى قمم المجتمع في الفن والثقافة والسياسة والرياضة.

هذه الدروس وتلك التقاليد هي التي تنبثق منها اليوم من جديد الصحافة المستقلة في مصر، مثلما احتفظت للصحافة القومية بتلك الخصائص، التي تميزها عن الصحف الحكومية، وغير الحكومية في الدول المشابهة لنا في الظروف السياسية في الجوار الإقليمي وغيره من أقاليم العالم، كما سبق القول، وهنا تحديدا يجب أن نتذكر أن العدد الأكبر من مؤسسي الصحافة المستقلة، والصحف الحزبية من قبل هم من أبناء المؤسسات الصحفية القومية.
لكن الصحافة المصرية في هذه اللحظة مع كل هذه الضمانات والآمال البازغة تواجه تحديات هائلة، بعضها يهدد التقاليد الموروثة بأكثر مما هددته السياسات الشمولية، ولنبدأ بأكثرها عمومية، وهو أن نظام التعليم لا يخرّج قاعدة عريضة من الكوادر الصالحة في كل الميادين، ويسرى ذلك بالطبع على الصحافة والإعلام عموما، وفى الوقت نفسه فإن هيكل الأجور «المتخلف» لا يسمح بإغراء المتعلمين والمؤهلين ــ وهم القلة ــ بالعمل في هذه المجالات، فتصبح النتيجة هي اندفاع الصحفيين إلى البحث عن مصادر أخرى للدخول، ويكون ذلك في الغالب على حساب التفرغ والإجادة والتطوير الذاتي، وإما على حساب التقاليد المهنية، التي تضع جدارا خرسا نيا بين مصالح الصحفي أو الإعلامي الخاصة، وبين مصادره وممولي الإعلانات.

قد يكون مفيدا في هذه النقطة أن أذكر أن مسئولا كبيرا في وزارة الخارجية المصرية فسر لي ظاهرة رسوب جميع المتقدمين للعمل دبلوماسيين في امتحان الوزارة عام 1998 بعزوف المتعلمين تعليما متميزا عن الوظيفة الدبلوماسية، لأنها في نهاية المطاف وظيفة حكومية لا تتيح دخلا مناسبا خاصة في فترات العمل في الديوان العام، ولذا فهم يفضلون الالتحاق بقطاع المال والأعمال الذي يفتح لهم ذراعيه.

من التحديات التي تواجهها الصحافة المصرية في وقتنا الحالي أيضا ظاهرة الاستقطاب السياسي، ومع الاحترام الكامل لكل التجارب، وكل الزملاء فإن هذا الاستقطاب يقود في بعض الأحيان إلى ممارسات لا تلتزم بما يكفى بالأصول المهنية، مما ترصده التقارير الدورية لنقابة الصحفيين، والمجلس الأعلى للصحافة، من مخالفات لميثاق الشرق الصحفي، ليس في القضايا السياسية فحسب، ولكن حتى في القضايا الاجتماعية وأخبار الحوادث والجريمة، ولا يؤثر هذا الاستقطاب السياسي على الصحف الحزبية والمستقلة فقط، ولكن أيضا يؤثر على الصحافة القومية، علما بأن الاستقطاب المعيب شيء، واختلاف الآراء والحوار شيء آخر تماما.

على هذه الخلفية من التقاليد الطويلة، والإنجازات العظيمة للرواد، وفى مواجهة التحديات ــ التي رأينا بعضها ــ تصدر صحيفة «الشروق الجديد»، ويشرف كاتب هذه السطور، ويثقل كاهله وضميره في الوقت نفسه، أن يتحمل مسئولية رئيسية فيها مع كوكبة من أساتذته وزملائه، وهى تصدر امتدادا لواحدة من أعرق وأكبر دور النشر في مصر والعالم العربي.. والعالم أيضا.. وأكثرها التزاما بالدور الثقافي التنويري، وباحترام حقوق القارئ والكاتب معا.. هي دار الشروق، وما كان لهذه الصحيفة أن تصدر إلا لأنها ترى وتأمل لنفسها مكانا ودورا في حياة المصريين والعرب، مكانا سنسعى جاهدين لكي يتحول إلى مكانة بثقة القراء، والالتزام بتقاليد وأصول المهنة، وبالانتماء الوطني والقومي، وبنبذ الاستقطاب السياسي، وبحرية التعبير عن كل الآراء والأفكار، والحرص على توفير أفضل مناخ لأبنائها للعمل والتطوير.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved