الأزمة الطائفية.. لا تنفع معها حلول طائفية

زياد بهاء الدين
زياد بهاء الدين

آخر تحديث: الثلاثاء 16 أبريل 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

رغم أن العنف الذى شهدته منطقة الخصوص فى الأسبوع الماضى ثم الكاتدرائية بالعباسية قد تراجع ويبدو كما لو كانت الحياة قد عادت إلى طبيعتها السابقة، إلا أن الموضوع لم ينته بعد والقضية لا تزال بحاجة لمزيد من التأمل والتدبير لما أظهرته تلك الأحداث المؤسفة مرة أخرى من حقيقة أن المجتمع المصرى يمر بحالة خطيرة من الاحتقان والاستقطاب الطائفى الذى يهدد أمن البلد ووحدته الوطنية.

 

التوتر الطائفى ليس جديدا علينا بل ظاهرة متغلغلة فى المجتمع المصرى، يغذيها الفقر وفشل التعليم والتنافس على الموارد والهوة الثقافية بين عنصرى الأمة. وللأسف فإن الدولة والإعلام والأجهزة الرسمية وحتى الأحزاب والقوى السياسية تهتم بالموضوع كلما وقع حادث أو اشتعلت فتنة، فيهرول الجميع لإبداء حماسهم واعتراضهم وتضامنهم، ولكن ما إن يمر يومان أو ثلاثة حتى يذوى الاهتمام وتنصرف الكاميرات ويحمل السياسيون عتادهم إلى موقع آخر، ولكن لا أحد يلتفت إلى أصل الموضوع ولا يبذل جهدا فى معالجة الأسباب معالجة جذرية.

 

وفى تقديرى أن المعالجة السليمة يجب أن تبدأ بأن نتوقف عن محاولة التعامل مع المشكلة الطائفية باستخدام حلول من ذات النوع، أى حلول طائفية أيضا.

 

سأوضح ما أقصده بالحلول الطائفية بالرجوع إلى تعامل الدولة مع الملف الطائفى قبل الثورة، حيث كان هناك منطق سائد لدى الدولة واتفاق ضمنى بينها وبين الأقلية المسيحية واضح البنود والالتزامات ولو كان مستترا: إن الأقلية المسيحية عليها أن تساند الحكم ــ ولو بشكل هادئ وخافت ــ ولا تخرج عن طوعه ولا تسمح لشبابها بأن يخرجوا على الحاكم ولا بأن يتجاوز احتجاجهم قدرا معلوما ومقبولا. فى المقابل فإن الدولة كانت ملتزمة بتوفير الحماية الأمنية والحد الأدنى من حقوق المواطنة الرمزية والتمثيل المحدود فى الحكومة والبرلمان والمناصب العامة. أحيانا ما كانت شروط هذه الصفقة تتعرض للاهتزاز والاضطراب حينما يتم تجديد مبانى كنيسة دون ترخيص، أو يدب الخلاف بين عائلتين إحداهما مسلمة والأخرى مسيحية على قطعة أرض أو على اختفاء فتاة. ولكن بشكل عام ظل هذا الاتفاق قائما والأدوار محفوظة والملف بأكمله يديره جهاز أمن الدولة لأنه كان الأقدر على التحقق من التزام كل الأطراف بأدوارها المحددة بدقة. ما المشكلة إذن؟ المشكلة تحديدا أن هذا كان تعاملا أمنيا لا اجتماعيا، وانه كان ينهض على ترسيخ الطائفية والتفرقة بين الناس والعمل على توسيع الهوة بين المسلمين والمسيحيين لا تقريبها أو تجاوزها. بمعنى آخر فإن هذا الأسلوب فى التعامل مع الموضوع كان يهمه استمرار الطائفية لأنها تمكن من السيطرة ولأنها تشيع خوفا مطلوبا لضمان واستقرار الحكم. ومع ذلك فإن التاريخ سيذكر أن رموزا وطنية كبرى خرجت عن هذه المنظومة ورفضت أن تلعب هذا الدور المرسوم بدقة واختارت ان تكون مشاركتها فى العمل العام من منظور وطنى لا طائفى.

 

كل هذا تغير بسبب الثورة وبسبب مشاركة الشباب المسيحيين فيها وخروجهم ليس فقط على طاعة الحاكم ولكن أيضا على القيود المفروضة عليهم فى تجنب النشاط السياسى. مشاركة المسيحيين المصريين فى الثورة وسقوط الشهداء والضحايا منهم لم يكن تعبيرا فقط عن رفضهم لاستبداد الدولة، ولكن كان ينطوى أيضا على الخروج من سطوة رجال الدين ومقاومة الجدران العازلة بينهم وبين باقى المجتمع ونبذ ثقافة الخوف والتمييز التى منحتهم لعقود طويلة أمنا وهميا ومواطنة منقوصة ومساواة زائفة. بهذا المعنى فإن التحام المصريين جميعا ــ مسلمين ومسيحيين ــ فى حلم التغيير وفى الاستعداد للتضحية، كان تعبيرا عن لحظة «لا طائفية» فريدة من نوعها.

 

ثم ماذا حدث بعد ذلك؟ احتدم الصراع السياسى، واكتشف السياسيون المحنكون أن الطائفية أسرع وأسهل وسيلة لكسب الأصوات ولحشد الناخبين ولإخراج أقبح ما فى النفس البشرية من مشاعر العداء والكراهية والعزلة، وكلها أدوات الفوز فى الانتخابات وتحقيق حلم السيطرة على الدولة وعلى الحكم. والنتيجة أننا عدنا مرة اخرى للطائفية ومن أوسع أبوابها ولكن بعد أن صارت أداة سياسية مشروعة وبعد أن زالت كل القيود والعقبات التى كانت تعترض انطلاقها دون رادع، سواء فى دور العبادة أم على الفضائيات، ام حتى فى قاعات المجلس التشريعى الذى أعطاها غطاء قانونيا حينما سمح باستخدام الشعارات الدينية فى الدعاية الانتخابية.

 

والعمل؟

 

إن اكبر تحد يواجهنا اليوم هو مقاومة خطر اللجوء إلى ذات الحلول الطائفية من أجل التعامل مع هذا الموضوع الشائك. المخرج من هذه الأزمة يجب أن يقف على أرضية المساواة والقانون ورفض التمييز لا على أساس التعايش السلمى بين فريقين معزولين. والفارق بين المنظورين كبير جدا. مقاومة التطرف الدينى بتطرف طائفى معاكس، وبناء أحزاب تواجه الانحياز الدينى بانحياز مماثل، وقبول الحلول الهزيلة التى ترسخ الانقسام فى المجتمع مثل الصلح العرفى، والاعتماد المتزايد على تدخل رجال الدين فى فض منازعات محلها الطبيعى هو المحاكم، واختيار مرشحى الرئاسة والبرلمان والنقابة على اساس طائفى دون النظر إلى برامجهم الاقتصادية أو الاجتماعية أو غيرها، كل هذه ممارسات وحلول ترسخ الطائفية وتدعمها وبالتالى تزيد من عمق الأزمة.

 

المخرج الوحيد من هذه الأزمة الضاربة بجذورها فى أعماق المجتمع المصرى هو من بوابة نبذ الطائفية من الأصل لا ترسيخها، والتمسك بالمساواة الكاملة بين المواطنين، ورفض التمييز بكل أشكاله. الحل هو بناء مؤسسات الدولة المدنية ــ المدنية حقيقة لا قولا وادعاء ــ والاحتكام إلى القانون والى العدالة معصوبة العينين والدفاع عن المواطنة لا عن مصالح الطائفة، ولو كان الطريق شاقا وطويلا.

 

إن كانت الطائفية هى المشكلة فلا تبحثوا عن الحلول التى تأتى من ذات نوعها، وإلا فلا تلوموا إلا أنفسكم حينما تتفاقم الأزمة فلا نجد قانونا يسود ولا دولة تحمى ولا عدالة تساوى بين الجميع.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved