إصرار على الإنكار

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 16 يونيو 2010 - 10:02 ص بتوقيت القاهرة

 قابلت كثيرين من كل الأعمار والأنواع يتمتعون بموهبة خارقة. أما الموهبة فهى القدرة على «الإنكار» والثبات عليه. تصورت فى وقت من الأوقات أنها خاصية يختص بها الأطفال. فالطفل يعيش معظم ساعات يومه يحلم، وفى هذه الأحلام يختلق شخصيات، ولنفسه يصطنع أدوارا.

وبعد الحلم يتعامل مع الواقع بإنكار، متمسكا بالواقع الافتراضى الذى تصوره أثناء الحلم ومتأثرا به. بعضنا وربما أغلبنا يعرف أن الطفل يكذب ببراءة أحيانا، وبقصد وسوء نية فى أحيان أخرى. وفى معظم الأحيان يرفض الاعتراف بأنه يكذب، ويستخدم «الإنكار» درعا يقيه شكوك الغير واتهاماتهم، خصوصا أن إنكاره يأتى غالبا مغلفا بابتسامة ساحرة أو مع نظرات ترطبها دموع هى الأخرى ساحرة.

بعضنا، ولا أقول أغلبنا، يعرف أن المرأة تجيد أكثر من الرجل ممارسة الإنكار. والإنكار لا يعنى بالضرورة فى هذه الحالة، الإصرار على كذب أو التمادى فيه، إنما يعنى التشبث بعدم صحة معلومة ما، أو التمسك بصحة خطأ ما، أو التزام رواية معينة والرفض المطلق لمحاولة التشكيك فيها. وفى معظم الحالات وبمرور الوقت وبالإنكار المتوالى يتعين على الطرف الآخر إن أراد تعايشا سلميا أن يصدق على الإنكار وإن لم يصدقه.

بمناسبة موضوع «الإنكار» تذكرت أننى قرأت فى صحيفة الجارديان البريطانية معلومات وآراء تفيد بأن وزير التعليم فى الحكومة الائتلافية الجديدة دعا المؤرخ الشهير نيال فيرجسون ليساعد الوزارة فى تغيير مناهج تدريس التاريخ للطلبة البريطانيين. يقول الوزير إن مناهج التاريخ يجب أن تعطى المرحلة الإمبراطورية حقها الذى أهدرته سنوات تولى فيها حكم البلاد حزب العمال وسادت فيها أفكار الاشتراكية والمساواة.

يعرف الوزير، كما يعرف المتابعون لكتابات فيرجسون، أنه واحد من أشد أنصار المراحل الإمبراطورية فى التاريخ العالمى، وهو صاحب الرأى القائل إن «النظام الإمبراطورى أكثر ضرورة فى القرن الحادى والعشرين من أى وقت سابق». وخرج خبير آخر يدعى أندرو روبرتس يعلن أن الإمبراطورية البريطانية كانت «قوة مثالية لصنع الخير وتستحق التقليد والتكرار» وأن الفكرة الإمبريالية «عاد الزمن لإحيائها، ولا شك أنه آن أوانها». هؤلاء جميعا لم يأتوا بجديد إذ إن فكرة العودة إلى النظام الإمبراطورى صارت تحظى بشعبية بين بعض رجال الحكم فى بريطانيا والولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة حين بدأ انفراد أو ادعاء أمريكا حقها الانفراد بقيادة العالم. وفى رأيى أن شيوع هذه الفكرة فى أوساط النخب الحاكمة هو الذى مهد لحرب العراق وأفغانستان ربما أكثر من أى عامل آخر.

أذكر جيدا أن أحد مستشارى طونى بلير، رئيس حكومة حزب العمال، دعا إلى استنباط نوع مختلف من الإمبريالية، وخرج فيرجسون وقتها يدعو أمريكا إلى قراءة تاريخ الاستعمار البريطانى لتتعلم كيف تقضى على التمرد فى فالوجا العراق باستخدام القسوة المتناهية. وكان جورج براون رئيس وزراء بريطانيا الأخير يدعم الدعوات التى تطالب بالامتناع عن تقديم الاعتذار عن أخطاء الإمبراطورية وممارساتها.

فى مقال نشرته فى آخر أعدادها مجلة أطلانطيك المعروفة كتب سباستيان مالابى يقول إن أحد كبار الاقتصاديين الأمريكيين ويدعى بول رومر يحاول مساعدة الدول الفقيرة لتقضى على الفقر وتصبح دولا غنية فى فترة وجيزة.

يقوم رومر بإقناع المسئولين فى هذه الدول بإقامة «مدن تعاقدية» داخل حدود الدولة. هذه المدن سوف تشبه «المناطق الحرة» التى أقمناها فى بلادنا فى كثير من الأمور ولكن تختلف عنها فى أمر أساسى وهو أن الحكم فيها يجب أن تتولاه دولة أجنبية أو من تعينه هذه الدولة. لا يخفى بول رومر اعتقاده أن سوء الحكم مسئول عن الفقر أكثر من أى عامل آخر وأن هذه المدن التعاقدية إذا تركت تخضع لحكومة أجنبية متنورة تصدر قوانينها الخاصة وتتخلى عن مزاعم الديمقراطية وحقوق المواطنة فسوف يقضى على الفقر فيها.

يزعم رومر أن رءوس الأموال لن تتدفق إلا إذا تخلت الدولة مالكة المدينة التعاقدية عن سيادتها عليها لصالح الدولة الحائزة حسب العقد على السيادة لمدة طويلة جدا. يقول إن الحكومة الكوبية ألمحت مؤخرا إلى استعدادها التعاقد مع كندا لإدارة منطقة جوانتانامو إذا تنازلت الولايات المتحدة عن سيادتها عليها.

وكانت قد ترددت فى أعقاب الزلزال الذى ضرب هايتى فكرة أن تتنازل المكسيك عن جزء من أراضيها ليسكنه شعب هايتى بشرط أن تخضع لحكم الولايات المتحدة أو كندا. وكنا قد تابعنا بشغف المحاولة التى أقدمت عليها شركة دايو الكورية لاقتطاع شريحة كبيرة من أراضى دولة مدغشقر لإقامة مشروعات زراعية بشرط أن يتولى الكوريون الحكم فيها وتتخلى تاناناريف عن سيادتها عليها. وما زلنا نتابع وبشغف السباق المحموم من جانب دول غير قليلة العدد وبينها دول عربية على شراء أراضٍ أفريقية وقيل إن مسودات بعض العقود الجارى التفاوض عليها تمنح المشترى حق استبدال السكان أو «تطعيمهم» بشعب آخر.

أقرأ فى مقالات ودراسات كتبها عدد لا بأس به من المفكرين العرب ميلا متزايدا لإنكار الاتهام بأن الاستعمار كان تجربة سيئة وأنه كان سببا فى تخلف أمم عديدة وأنه كان ظالما وقاسيا وأهلك بشرا حاولوا مقاومته وسخر الموارد الوطنية لفائدة المركز الإمبراطورى ونخبة محلية محدودة. هؤلاء المفكرون لا يكذبون وأغلبهم صادق ومصدق أن نوعا من استعمار مباشر جديد صار ضرورة حيوية للتخلص من نخب حاكمة واقتصادية متخلفة.

ليس بين هؤلاء كثيرين يحلمون بحريات أوسع أو بديمقراطية، وبعضهم كتب معترفا بأنه لا أمل فى مواطنة ولا جدوى من حرية انتخاب وتصويت طالما بقى الفقر مهيمنا.

دليلهم هو هذه الملايين من البشر التى تهاجر سعيا وراء رزق وليس وراء حق انتخاب أو تصويت أو تمثيل فى بلاد المهجر. دليلهم أن هذه الملايين صوتت بأقدامها حين هاجرت من فقر صنعته حكومات سيئة إلى أمل تجسده حكومات جيدة.

لا أساوى إنكارا بإنكار، فالإنكار مع ابتسامة أو دموع ناعمة وساحرة لا يمكن أن يساوى الإنكار مع نوايا مسمومة أو معطوبة.


هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved