عن معضلة اختيار رئيس وزراء

زياد بهاء الدين
زياد بهاء الدين

آخر تحديث: الثلاثاء 17 يوليه 2012 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

هل تتذكرون «أو جى سمبسون»؟ النجم السينمائى والرياضى الأمريكى المعروف الذى اتهم بقتل زوجته عمدا مع سبق الإصرار والترصد منذ ثمانية عشر عاما وتحولت محاكمته إلى أشهر قضية جنائية فى التاريخ؟ تذكرته هذه الأيام ونحن فى انتظار تعيين رئيس للوزراء وتشكيل حكومة جديدة (على الأقل حتى وقت كتابة هذه السطور). وسأخبركم عن وجه المقارنة. فى النظام القضائى الأمريكى يتم تشكيل هيئة محلفين من المواطنين العاديين، وهى التى تقرر ــ بعد سماع المرافعات والدفوع ــ ما إذا كان المتهم مذنبا أم بريئا. ولأن هذه الهيئة يقع فى يدها مصير المتهم فإن القانون الأمريكى ينص على ضرورة أن يكون المحلفون جميعا ممن تتوافر فيهم الحيدة الكاملة، وألا يكون لأى منهم رأى مسبق عن القضية وعن المتهم وإلا كانت عضويته فى هيئة المحلفين باطلة. وهنا وقعت المحكمة فى ورطة حقيقية. فالمتهم كان أحد أشهر نجوم الشاشة والملاعب، والقبض عليه جاء فى نهاية مطاردة مثيرة نقلتها كاميرات التليفزيون على الهواء مباشرة، وخبر اتهامه بقتل زوجته ظل متصدرا كل وسائل الإعلام أسابيع طويلة قبل بدء المحاكمة، ولذلك فقد كان من المستحيل فعليا أن تجد المحكمة هيئة كاملة من المحلفين ممن تنطبق عليهم شروط «الحياد»، إذ لا أحد فى الشعب الأمريكى لم يكن قد سمع عن «أو جى سمبسون» وكون رأيا عنه وعن صحة اتهامه، إلا أنه كان طفلا رضيعا، أو شخصا غائبا عن الوعى، أو لا يعيش معنا على هذا الكوكب، وكلها من الأمور التى تسقط أهلية الانضمام لهيئة المحلفين. أما كل انسان «طبيعى» ومتابع للحد الأدنى من الأخبار، فلابد أن يكون لديه رأى فى القضية وشك فى براءة المتهم أو ذنبه وإلا ما كان شخصا طبيعيا.

 

تذكرت هذه الاشكالية وأنا أتابع الجدل السياسى الدائر فى مصر حول اختيار رئيس الوزراء الأول فى عهد رئاسة د. محمد مرسى. فقد اندفع المجتمع والرأى العام فى فكرة اختيار رئيس وزراء «مستقل»، وذهب آخرون إلى ضرورة أن يكون «غير منتمى سياسيا»، أو من طائفة «التكنوقراط»، وطالب البعض بأن يكون من خارج الإخوان المسلمين وحبذا لو من خارج التيار الإسلامى كله، واقترح المحللون أن يكون بلا ماض سياسى. وأسأل القارئ، هل فعلا نريد رئيسا للوزراء بهذه المواصفات، أو بالأحرى «اللا مواصفات»؟ هل نريد رئيسا للحكومة ليس لديه رأي، أو انتماء، أو فكر مسبق، أو موقف من أى نوع؟ بل هل يوجد حقيقة شخص «تكنوقراطى» إلى حد أنه يمسك بمفك أو بآلة حاسبة ويمارس عمله الفنى دون أن يكون له رأى فى أى قضية عامة؟ ثم لماذا الإصرار على أن يكون رئيس الوزراء القادم من خارج حزب الحرية والعدالة ومن خارج التيار الإسلامى؟ إذا كان هذا هو الحزب الذى فاز مرشحه فى الانتخابات الرئاسية، فلم يقم بتعيين حكومة تعبر عن اتجاه سياسى مختلف؟ لم أسمع يوما أن حزب المحافظين البريطانى قد فاز بالانتخابات لكى يعين حكومة عمالية، أو أن مرشح الحزب الديمقراطى فى أمريكا انتصر على خصمه الجمهورى ثم عينه رئيسا مكانه. اما اتهام حزب الحرية والعدالة بأنه يسعى للسلطة فهو اتهام أعجب، فما قيمة الأحزاب والتنافس والانتخابات والديمقراطية كلها إن لم تكن تسعى للسلطة وللحكم؟ وكيف يكون لمرشح رئاسى برنامج يعد به الناخبين ويقسم لهم على تطبيقه لو لم يكن ينوى تعيين حكومة ووزراء يقومون بتنفيذ برنامجه؟

 

قد يكون أصل المشكلة هو موضوع «التوافق» وخروجه عن إطاره الطبيعى. فالتوافق مطلوب وضرورى حينما يتعلق الأمر بالدستور، وبتحديد هوية الدولة، وبنظام الحكم، وبقيم المجتمع وركائزه، وبالحقوق والضمانات الواجب توافرها لكل المواطنين. ولذلك كان طبيعيا أن نسعى لهذا التوافق فى تشكيل الجمعية التأسيسية وفى بعض القوانين التى تغير من شكل الدولة والمجتمع. ولكن للأسف إن هذا التوافق الذى لم يتحقق فى الأمور الجوهرية الكبرى، صرنا نبحث عنه فى تشكيل الحكومة واختيار الوزراء، بينما هذا موضوع يتطلب تنافسا وانحيازا. هذه الحكومة سوف يكون عليها انقاذ البلد من الانهيار الاقتصادى، وإعادة الأمن للشوارع، وضبط الموازنة العامة، وتوفير وصول السلع والخدمات للمواطنين، وهذه كلها أمور تحتاج موقفا فكريا واضحا، وسياسة اقتصادية محددة، وقدرة على التنفيذ، وحسما فى اتخاذ القرارات الصعبة.

 

وقد يكون الخوف لدى جمهور واسع من الناس ــ من خارج التيار الإسلامى ــ مبررا من منظور أن الحكومة القادمة قد تستغل سلطاتها لكى تغير من طبيعة الدولة ومن شكل مؤسساتها السيادية وهو خوف يستند إلى ممارسات حزب الحرية والعدالة خلال العام الماضى، خاصة فى مجلس الشعب. وقد يكون هذا هو ما دفع عددا من المفكرين وقادة الرأى إلى التوجه إلى د. محمد مرسى قبيل إعلان نتيجة الانتخابات لكى يعدهم بأنه سوف يختار رئيسا لحكومته من خارج الحرية والعدالة والإخوان المسلمين. ولكن تقديرى أن التعامل مع هذه المخاوف لا يكون بالمطالبة باستقلال رئيس الحكومة، بل عن طريق العمل على الفصل بين الدولة ومؤسساتها وبين الحكومة بحيث لا يكون تعيين الحكومة مؤديا إلى سيطرة حزب معين أو تيار سياسى على مؤسسات الدولة التى يفترض بها أن تكون محايدة بالمعنى الحقيقى. يجب الاتفاق على أن تكون للحكومة صلاحيات معروفة ومحددة لا تتجاوزها، وعلى أن يكون من حق المعارضة أن تحصل على ذات المعلومات المتاحة للحزب الحاكم، وأن يكون لها ذات الاتصال بمؤسسات الدولة. بمعنى آخر، فالمطلوب هو وضع إطار يضمن حياد الدولة لا حياد الحكومة، وعندئذ لا يكون هناك خوف من أن تكون هذه الحكومة ذات توجه سياسى واضح.

 

من جهة أخرى، فإن تعيين حكومة لها موقف فكرى وبرنامج محدد هو الوسيلة الوحيدة التى تجعل الناس تحاسب المسئولين عن اتخاذ القرار وتكافئهم أو تعاقبهم على إدارتهم للبلاد. وهذا ليس بالمناسبة من باب «التدبيس» أو التوريط، وإنما حرصا على أن تكون المسئولية فى يد صانع القرار، وأن تكون هناك حكومة وتكون هناك معارضة ويكون هناك رأى عام قادر على التفاعل مع الاثنين. أما الإصرار على أن يكون القرار مشتركا، فيعنى أيضا أن يكون تائها، وهذا أمر غير مطلوب فى الظروف الحالية.

 

المحكمة الأمريكية قنعت فى النهاية بحل «توافقى» بين النيابة والدفاع فى قضية «أو جى سمبسون» وعينت هيئة محلفين يتوافر فيها الحد الأدنى المطلوب للخروج من المأزق. ولكن لا نريد لمصر أن تكون حكومتها ووزراؤها ممن يتوافر فيهم الحد الأدنى، بل إن يكونوا أصحاب رأى وموقف وقضية، ولو كنا على معارضة منهم، لأن البلد اليوم يحتاج حكومة قوية كما يحتاج معارضة قوية، وكلاهما يعمل لصالح الوطن.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved