شقة أم نيللى

طلعت إسماعيل
طلعت إسماعيل

آخر تحديث: الإثنين 16 يوليه 2018 - 9:15 م بتوقيت القاهرة

الغموض، وعناصر الإثارة التى تصاعدت بعد العثور على جثث الأطفال الثلاثة فى منطقة المريوطية بالهرم، كانت كفيلة بجذب أنظار وعيون وآذان الرأى العام، قبل أن تضغط على محررى الحوادث ورجال البحث الجنائى، لمعرفة تفاصيل قصة جديدة فى عالم الجريمة، الذى يفاجئنا من وقت لآخر بقضايا يشيب لهولها رأس الشباب، كما يقال. ولِمَ لا ونحن أمام جميع عوامل لفت الانتباه، وفتح باب النميمة على مصراعيه، خلف الأبواب المغلقة جنبا إلى حديث المقاهى والحافلات العامة، حيث تختلط الأكاذيب بالشائعات.
فى البداية تداول رواد «السوشيال ميديا»، تفسيرات متعددة للحادث، فمن قائل إن عصابة للاتجار بالأعضاء البشرية وراء الجريمة، ومن اتهم وافدين أفارقة بإلقاء الجثث فى الشارع على نحو ما تم العثور عليه، وثالث راح يهول من الأمر مترحما على أيام الأمن والأمان، فيما تضاربت روايات الصحف، قبل أن يتوصل رجال الأمن إلى المفاجأة الصادمة، وهى أن أم الضحايا من ألقى بهم على قارعة الطريق بمساعدة صديقتها «أم نيللى»، التى استضافتها وأطفالها داخل شقة فى عقار قريب من المكان الذى عثر فيه على جثث الصغار الثلاثة.
وفى التفاصيل التى تحدثت عنها المصادر الأمنية، وجلبها الزملاء فى اقسام الحوادث بالصحف من الجيران، وأهل المنطقة وحتى عابرى السبيل، طغت على السطح عناصر التشويق لهواة متابعة مثل هذا النوع من الجرائم الغريبة، فالأم ( سها ــ 38 عاما) تعمل فى ملهى ليلى، والأبناء، الذين تتراوح أعمارهم بين العامين والستة أعوام، حصيلة ثلاث زيجات عرفية، على الرغم من أنها متزوجة رسميا من رجل يبلغ 65 عاما منذ خمسة أعوام، واثنان من الأبناء مسجلين باسمه، على الرغم من أن أبويهما مطربين شعبيين (طبقا للزميل مصطفى حمدى فى «الشروق» عدد الإثنين 16 يوليو الحالى).
وفى التفاصيل أيضا، أن الأم تركت أبناءها الثلاثة فى عهدة صديقتها وخرجت، كما هو معتاد كل ليلة، بحثا عن رزقها، لكن يبدو أن الصديقة بدورها خرجت لغرض ما، لتعودا فتكتشفا احتراق الصغار، وتفحمهم، فى حريق لم تعرف ملابساته.. اسقط فى يد الأم، وانتاب الهلع الصديقة، وفى لحظة تخبط وانعدام التفكير، وبدلا من الاتصال بالشرطة، قررتا لأسباب، ربما تتكشف لاحقا، التخلص من «جسم المأساة» بإلقاء الجثث المتفحمة، بمساعدة زوج الصديقة، فى الشارع على نحو ما حدث.
وبحثا عن المزيد من البهارات، انقض وحش الإعلام على القضية، وراحت الصحف «تجود» بمعلومة من هنا وأخرى من هناك، فى تصوير عجيب للأم وزميلتها على أنهما المسئولتان عن كوارث الكون، من دون أن يطرح أحد سؤالا: هل هما مجرمتان أم ضحيتان لمجتمع ترقد تحت جلده «أورام سرطانية» تفاجئنا من حين لآخر بمثل هذا النوع من الغرائب لقصص بشر من لحم ودم، وليس من العالم الافتراضى الذى يكتفى رواده بالتهام «المرضى»، ونهش الضحايا بلا رفق أو رحمة.
يا سادة نحتاج قبل اطلاق الأحكام على سها، وصديقتها أم نيللى، أن نعيد النظر فى رؤيتنا المغلوطة لمجتمعنا الذى يتغير بشكل حاد ومتسارع بأكثر مما نظن، وألا نظل أسرى الانطباعات القديمة عن العلاقات الاجتماعية المثالية التى كانت سائدة ذات يوم، أو ما كان يحكم تصرفات الناس، بدوافع دينية وأخلاقية، قبل خمسين عاما مضت، فيما الواقع يقول إننا وصلنا إلى مناطق تجاوزت فى عمقها مرحلة «البراميل» فى بحر هائج.
بدلا من إلصاق كل نقيصة بمن يرتكب مثل هذا النوع من الجرائم، دعونا نبحث فى الأسباب الكامنة بنية العلاج، وليس بهدف التشهير، أو التنفيس المريض عن هلاوس ومراحل من اكتئاب قد يصيب البعض منا، فمن دون فهم حقيقى لمجتمعنا، والاعتراف بالعلة، فإن حالتنا ستزداد سوءا، وسيظهر بيننا ما هو أسوأ من جريمة المريوطية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved