ساسة الأيادى المرتعشة

إبراهيم الهضيبى
إبراهيم الهضيبى

آخر تحديث: الجمعة 16 سبتمبر 2011 - 10:00 ص بتوقيت القاهرة

ارتعشت أيادى الساسة فى الأسبوع السابق لخلع مبارك، ففى حين أصر الشارع على أنه (لا تفاوض قبل الرحيل)، قبل الساسة بفكرة تفويض السلطات لنائب الرئيس مع بقاء مبارك فى السلطة لحين إجراء الانتخابات، ودخلوا فى مفاوضات مع نائب الرئيس المخلوع حول هذا الأمر، بيد أن هذا كله لم يصمد أمام إصرار الشارع على خلع مبارك.

 

ومع افتراض حسن النية فإن تأخر الساسة عن موقف الشارع كان له سببان، أولهما عدم كفاية ثقتهم فى قدرته على الصمود أمام الضغوط الإعلامية والاقتصادية والأمنية التى مورست عليه وقتئذ، وثانيهما وقوعهم أسرى للقواعد غير العادلة الضابطة للعملية السياسية، والتى ثار الشعب عليها، إذ بدا التفويض لهم مخرجا آمنا وحيدا من الأزمة الدستورية المتعلقة بالجهة المقترحة لتسلم سلطات الرئيس.

 

وفى تقديرى فثمة تشابه بين موقف الساسة هذا وموقفهم من إسرائيل خلال الأحداث الأخيرة التى بدأت بمقتل حرس الحدود المصريين، ففى حين أصر الشارع على قطع العلاقات الدبلوماسية بإسرائيل وإلغاء معاهدة السلام (وهو موقف أغلبية المصريين من قبل الأحداث كما تشير نتائج الاستطلاع الذى أجراه مركز جالوب فى مارس وأبريل الماضيين)، كان موقف الساسة أقل حسما فتوقفت مطالبهم عند طرد السفير الإسرائيلى أو استدعاء السفير المصرى للتشاور، وظل الموقف الرسمى دونهما باكتفائه ببيان شجب فيه الأحداث وأكد عدم التفريط فى الدم المصرى، من دون الحديث عن خطوات جادة تحفظ حق الوطن، وخرجت مسودة البيان ــ التى أعلن فيها سحب السفير ثم تم التراجع عنها ــ لتدل على ارتعاش أيادى صناع القرار فى مصر.

 

وأمام هذا الارتباك خرج الناس إلى الشارع مرة أخرى الجمعة الماضية، فهدموا السور الذى بناه حكام مصر المؤقتون لحماية سفارة إسرائيل، وأنزلوا العلم ــ مرة ثانية ــ من عليها، واقتحمها بعضهم، وقاموا ــ عمليا ــ بطرد السفير بأن فرضوا على إسرائيل استدعاءه، فجاء رد الفعل ــ مرة أخرى ــ مخزيا على المستويين الحكومى أو الحزبى، وهو رد فعل عبر عن مصالح البعض، سواء الاقتصادية (تتحدث مصادر رسمية إسرائيلية عن تبادل تجارى محدود يصل لنصف مليار دولار، أغلبها فى قطاعى الطاقة والنسيج)، أو السياسية (عدم رغبة بعض المؤسسات فى تغيير البنية السياسية الحالية حفاظا على نفوذها، وتذرعها بخطر الحرب فى تبرير ذلك)، وعبر ــ وهو مناط البحث هنا ــ عن ارتعاش أيادى الساسة.

 

أما ساسة الحكومة فقد تجلى اضطرابهم فى تغيير وجهة الغضب، فبدلا من الدفاع عن الدماء المصرية المسفوكة دافعت الحكومة عن السفارة الإسرائيلية المقتحمة، وجاء بيانها عن الواقعة الثانية أكثر حزما منه عن الأولى، إذ أكد احترام مصر لالتزاماتها الدولية، وإدانة الحكومة للاعتداء، وصحب ذلك اتخاذ مجموعة من الإجراءات والتدابير على الأرض ترد الاعتبار لإسرائيل، كالإسراع بالقبض على المتورطين، ومحاكمتهم استثنائيا عن طريق توسيع نطاق العمل بقانون الطوارئ.

 

البيان عبر عن اضطراب واهتزاز للثقة من جهتين، فهو أولا ــ كما سبق ــ أقل حدة فى لهجته وجدية فى خطواته من بيان إدانة مقتل الجنود، وهو ثانيا أكثر تشددا فى رفض الحدث من الإسرائيلين، الذى جاء خطابهم الرسمى والإعلامى معبرا عن القلق أكثر من الغضب، ومتوسلا بعملية السلام لا مهددا بنقضها كما خشى الساسة الذين لم يدركوا بعد قوة البلد الذى يحكمونه، ولم يرغبوا كالشعب فى تغيير القواعد الظالمة الحاكمة لعلاقاته الخارجية.

 

وأما موقف ساسة الأحزاب فكان فى معظمه أكثر سوءا، فعدم الثقة فى الشارع والوقوع قيد الأسر لقواعد حكمت العلاقة المصرية ــ الإسرائيلية فى عهد مبارك من جهة، وعدم الرغبة فى التراجع عن موقف المطالبة بطرد السفير من جهة أخرى ــ أربكت بعض الساسة لدرجة العجز الكامل عن صياغة موقف من الأحداث، فركزت بعض البيانات على أحداث هامشية ــ كالاشتباكات المحدودة بين المتظاهرين والشرطة عند مديرية الأمن ووزارة الداخلية ــ مع تجاهل تام للحدث الرئيس، وضاغ البعض بيانات تحوى تناقضات صارخة، كالنص فى أول البيان على رفض الاعتداء على سفارات دول ذات سيادة، وتسمية إسرائيل فى آخره (الكيان الصهيونى)، على أن قوى أخرى قد خرجت من هذا التناقض بإدانة الواقعة صراحة، وبعبارات أكثر حسما من تلك المستخدمة لإدانة قتل الجنود المصريين.

 

تشير هذه المواقف وغيرها إلى ضعف الخيال السياسى لساسة مصر الذين يتحركون فى إطار فرضيات محددة سلفا، فبعضهم بنى موقفه من اقتحام السفارة على سبيل المثال على فرضية احتياج مصر لاتفاقية السلام لعدم استعدادها للدخول فى حرب، وهى فرضية تمثل خلاصة الخطاب الرسمى والإعلامى طوال سنوات حكم مبارك.

 

وهذه الفرضية باطلة من جهات، أولاها أن خرق الاتفاقية فى موقف لا يعنى نقضها وإلا فهى منقوضة بخروقات إسرائيلية لا تحصر، وحتى فى الحالة الآنية فإن خرق إسرائيل للاتفاق (بعدم سيطرتها على جنودها النظاميين وإطلاقهم النار بصورة أدت لمقتل ستة مصريين) أعظم بكثير من الخرق المصرى له (بعدم سيطرة سلطة مؤقتة على شعب غاضب أنزل علما واقتحم سفارة) وثانيها أن نقضها لا يعنى الدخول فى الحرب، فثمة مساحة من الخيارات تمثل الدبلوماسية الخشنة بدرجاتها يمكن اللجوء إليها، وثالثها أن إسرائيل غير مستعدة وغير راغبة فى الدخول فى حرب مع مصر دفاعا عن سفارتها لأنها أكثر انشغالا بالدفاع عن وجودها المهدد بتحديات أكبر من الداخل الإسرائيلى، وغزة، والمحيط الإقليمى الواسع ليس هذا مجال تفصيلها، وأخيرا فإن الخوف من حرب محتملة لدرجة القبول بقتل الجنود بغير ثمن إنما يعكس انعداما للثقة بالنفس لا يليق.

 

وفى تقديرى فإن هذا الضعف الذى عليه الساسة هو ما يدفعهم لأن يتجنبوا ما استطاعوا الخوض فى القضايا الجادة، ذات التأثير المصيرى على مستقبل الوطن واستقلاله، والانشغال بدل ذلك بالجدل حول قضايا لا تشكل فى حقيقتها تهديدا حقيقيا بالوطن، كالخلاف حول ترتيب إجراءات انتقال السلطة من دون بحث عقبات الاستقلال الوطنى، والانشغال بقضية هوية الدولة الاسمية لا بقضية كرامتها وكرامة مواطنيها.

 

إن غالبية ساسة مصر هم فى تقديرى دون مستوى ثورتها، وعجزهم الناتج عن فقدانهم الثقة، مع إصرارهم على تصدر المشهد الإعلامى يضر بمسيرتها، ولذلك فإن الثورة فى ظنى لن تتمكن من استكمال مهامها واستعادة الاستقلال الوطنى وكرامة المصريين إلا بتجاوز الساسة الحاليين وتهميشهم، وإفراز ساسة من نوع آخر، أكثر ثقة فى الشارع وارتباطا به واحتراما له فى الخطاب والفعل، وأكثر قدرة على التحرر من أسر الفرضيات المتوهمة والقواعد الظالمة الموروثة، وأقل ارتباكا وارتعاشا فى مواجهة التحديات التى تواجه مسيرته.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved