عن لبنان ونظامه الفريد وموقع «النفايات» فى السياسة

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 16 سبتمبر 2015 - 5:15 ص بتوقيت القاهرة

أستأذن فى الكتابة فى موضوع قد يبدو تفصيليا، ثم إنه محلى يخص لبنان وحده، لكن دلالاته تشمل ـ فى تقديرى ـ الأنظمة العربية التى جعلت شعوبها ترى فى النظام اللبنانى المثال وغاية المنى.

تتأكد صورة لبنان ـ عربيا ـ بوصفه بلدا أسطوريا اصطنعته خلطة من الخرافات والوقائع والحسابات الدولية المعقدة.

***
فهو دولة بنظام يلغى الدولة:
نظامه «ديموقراطى برلمانى» ولكن الطوائف أقوى من البرلمان وأقوى بما لا يقاس من الديمقراطية... والطوائف «دول»، وبالتالى قوتها ليست ذاتية، وإنما هى مستمدة من شروط التوازن الضرورى لاستقرار النظام.
ولبنان هو دولة عربية، من حيث المبدأ، لكنه يرى نفسه «دوليا»، فإذا ما نسى ذكره الأشقاء العرب بأنه منهم ولكنه مختلف عنهم، «فالدول» هى التى أنشأت «كيانه السياسى» وهى التى رعت قيام «دولته»: ضعيفة قد تهتز وقد «تغيب» مؤسساتها أو تنقسم ولكنها لا تسقط تماما.
طموح شعبه علمانى، لكن واقع دولته يقوم على توازنات طائفية ومذهبية معقدة ومرهفة كحد السكين.
هو دار لجوء للخارجين من أوطانهم وعلى دولهم، لا سيما إذا كانوا اغنياء، أو ينتمون إلى أقليات عرقية أو دينية أو طائفية.
والكيان «غربى» بين العرب، لكنه «عربى» عند الغرب، و«أممى» فى نظر نفسه. هو «مقرب» من أهل الخليج بوصفه مترجما مميزا للمصالح والأغراض والرغبات، دار اصطياف وإشتاء وسياحة ومصرفا للتحويلات ووسيطا فى صفقات الإعمار.
شعبه أمم شتى، لكل أمة قياداتها فى الداخل ومثلها الأعلى فى الخارج. المعابد من كنائس ومساجد أكثر من أن تحصى، لكن المؤمنين قلة بينما المتعصبون كثرة. والطائفية استثمار ممتاز، تصنع زعامات ورئاسات ونيابات وتستولد مصالح مختلفة ومجزية جدا.
إذا اشتد عود العرب فهو الداعية المبشر بالعروبة إلى حد الادِّعاء بأنها من «اختراعاته» وهو «الوسيط» لدى الغرب. هو الداعية للحاكم العربى الأقوى، يترجم بعضه أفكار «الزعيم» ويوسع دائرة انتشارها (من دون ان يتبناها) بينما يسمح بعضه الآخر للخصوم بأن يروجوا لمعارضته ويشهروا بنظامه القمعى.

***
والنظام اللبنانى جبار قد تهز «دولته» الفتنة أو الضغوط المتقابلة، وقد تسقط حكومات أو تعطلها، لكنه يتخطى الأزمات باستناده إلى توازنات عربية ورعاية دولية دائمة حتى حين تختلف «الدول» فى ما بينها على تقاسم المصالح فى المنطقة من حوله.
ولأنه نظام مدول، باعتباره يستند إلى توافقات دولية لها تأثيرها المباشر عربيا، فقد كانت رعايته مسؤولية مشتركة بين الأقوى والأشد نفوذا دوليا والأقوى تأثيرا ونفوذا بين الدول العربية. من هنا فإن مصر كانت دائما فى موقع الراعى العربى ومعها بعض النفوذ الميدانى السورى وحصة للأغنى من بين الدول العربية.
وعندما غيبت الحرب على سوريا وفيها دورها فى لبنان، من دون أن تلغى قوتها السلبية الآن (حق الفيتو)، وجاء إلى الحكم فى الرياض من يريد دورا إقليميا مؤثرا فحول مجلس التعاون الخليجى إلى تحالف سياسى ـ اقتصادى ـ عسكرى (بشهادة الحرب على اليمن) تقدمت الرياض لتكون صاحبة دور مباشر فى بيروت، مع «جائزة ترضية» لمصر التى تمنعها همومها الثقيلة، اقتصاديا بالأساس ومن ثم سياسيا، من منافسة الدول المذهبة والتى خرجت من قوقعتها لتتصدر مفاجئة العالم باندفاعها عسكريا إلى الحرب فى اليمن بذريعة طرد «النفوذ الإيرانى» منها...
واستعادة اليمن إلى بيت الطاعة السعودى طموح قديم لا يغادر العائلة المالكة فى الرياض... وهو طموح له تاريخ حربى أيضا، ربما كانت آخر مواقعه فى الثلاثينيات من القرن الماضى، وعبر هجوم تجاوز «الحدود الطبيعية» بين البلدين الجارين ليستولى الأقوى على بعض المناطق اليمنية فيضمها إلى المملكة المذهبة.

***
...ونعود إلى الأعجوبة اللبنانية: فالدولة بلا رئيس منذ سنة ونصف تقريبا، ومجلسها النيابى الذى مدد ولايته (4 سنوات) يفتقد النصاب دائما، فلا يجتمع وبالتالى لا يشرِّع، ولا يقوم بمسؤولياته الدستورية وأخطرها انتخاب رئيس للدولة. وكل حكومة تشكل فيه يمضى رئيسها المكلف شهورا طويلة قبل ان يأتى الإذن من تلاقى المصالح بين دول عديدة للسماح بأن يكون لهذا الوطن الصغير حكومة، غالبا ما تولد شوهاء، تحمل أسباب عجزها فى تركيبتها الائتلافية بحكم الضرورة وليس بالرغبة.
والحكومة فى لبنان ائتلاف عربى ـ دولى بقدر ما هى شراكة اضطرارية بين زعماء الطوائف، لذا فإن توازناتها دقيقة... وفى السنوات الأخيرة كان كل من كلف برئاسة الحكومة يمضى شهورا طويلة من «المشاورات» العبثية فى انتظار بزوغ الضوء الأخضر من عواصم عدة لكى «يشكل» حكومته وفق توازنات زئبقية وبميزان الذهب الخالص. وبالتالى فإن الحكومات كانت تريح الخارج أكثر مما تحقق طموح الداخل.. خصوصا وأنها فى الغالب الأعم كانت أقرب إلى التلاقى بالمصالح بين قوى سياسية محصنة بمواقعها الطائفية...
فى الماضى البعيد كانت القاهرة هى الطرف المقرر، مع أخذ مصالح النظام فى دمشق بالاعتبار، ومراعاة السعودية وأقطار الخليج عموما لأسباب تتصل بالحاجة إليها للمساعدة... هذا فى ظل الحرص على تحاشى الاصطدام بالمصالح الغربية بعنوان واشنطن (ومن قبل كانت باريس مع لندن). وإلى ما قبل سنوات قليلة كانت دمشق مركز القرار مع مراعاة للرياض، أما واشنطن فالقاسم المشترك بين الجميع. وقد دخلت روسيا بعد إسقاط الشيوعية فيها نادى الدول المعنية بالنظام اللبنانى عن طريق السياسة كما عن طريق الدين، فالكنيسة الأرثوذكسية الروسية موجودة وذات دور معترف به منذ أيام القياصرة.

***
هذه الأيام يعيش لبنان فى أسر أزمة النفايات التى كان يفترض أنها وجدت حلولها فى درة السياحة فى الشرق العربى، لبنان، منذ زمن بعيد. لكن الواقع كشف أن العاصمة الأنيقة (والحديثة نسبيا بأبراجها الشاهقة التى الشقة فيها بملايين الدولارات) يمكن ان تمتلئ جنباتها فى مختلف أنحائها بالنفايات لأن الحكومات المتعاقبة أهملت معالجة هذه المسألة التى تبيّن انها يمكن ان تدر الملايين.
حوَّل العجز «النفايات» إلى قضية وطنية... وتفجر الغضب الشعبى بعدما تكشفت بعض أسرار الشركات التى كانت تتولى جمع النفايات وطمرها فإذا أرباحها تفوق أى تقدير، وإذا هى مقسمة بين الشركاء من أصحاب النفوذ... ثم إذا بهم هم يتقدمون ـ بعد تأخير مقصود للضغط على تمرير صفقة التعاقد الجديدة ـ للحصول على «امتياز» معالجة النفايات التى تهدد الصحة العامة وتفضح قصور الحكم وتثير غضب الشارع المستفز لأسباب كثيرة بينها غرق الدولة فى الديون والعجز المتفاقم إلى حد الخطورة عن تلبية احتياجات الناس.
نزلت الجماهير إلى الشارع تتقدمها نخب ثقافية واجتماعية يغلب عليها عنصر الشباب المغضب أصلا لافتقاد فرص عمل تتناسب مع كفاءاته والمدفوع دفعا إلى الهجرة (قريبة ومؤقتة إلى الخليج والسعودية أو بعيدة ونهائية إلى الغرب عموما بعنوان الولايات المتحدة وكندا فضلا عن السويد كمعبر أو دار هجرة مؤقتة).

***
انكشف النظام تماما. لكن هذا لا يعنى انه على وشك الانهيار.
ولقد هرع سفراء الدول، العظمى والمتوسطة، الغنية والبعيدة، «ينصحون» ويشدون أزر السلطة... ولكن تقديم الحلول السريعة والحاسمة يتجاوز قدراتهم ولا بد أن يصدر عن أهل الحكم...
على أن السعودية، ومعها أقطار الخليج، مشغولة فى اليمن، وأوروبا تحاول جاهدة معالجة طوابير الهاربين من ظلم دولهم فى أوطانهم العربية طلبا لحياة آمنة.
أما الحكومة فلا تملك حلا سحريا، فإذا ما اكتشفته فليست لديها القدرة على تنفيذه فضلا عن أن الوضع فى الشارع ضاغط جدا وينذر باحتمالات خطرة.
مع ذلك فحين التقى أقطاب السلطة، بناء على مبادرة متعجلة من رئيس المجلس النيابى، لمعالجة الوضع المتفجر، انشغلوا بتصفية الحسابات فى ما بينهم فاختصموا وانفضَّ عقدهم من دون قرار... مرجئين «الحوار» بين العاجزين أسبوعا لعلهم ينتبهون إلى المخاطر التى تحدق بالبلاد والتى تؤكد فشلهم الكلى، وإن هى عجزت عن المس بالنظام بقواه المحتربة بعيدا عن مطالب الناس وهمومهم فضلا عن طموحاتهم.



هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved