انحدار الغرب

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 17 يناير 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

 

تبدأ بعد أيام قليلة الولاية الثانية للرئيس باراك أوباما وسط طفرة فى الاجتهادات حول مستقبل أمريكا. بدأت بواكيرها بنقاشات حول مستقبل السياسة الخارجية الأمريكية قبل أن تنتقل إلى قضية انحسار مكانة أمريكا وتراجع دورها العالمى وانتهت إلى نقاش فلسفى وتاريخى حول انحدار الغرب بأسره وليس فقط انحدار أمريكا.

 

  وجدت صعوبة فى تحديد نقطة البدء فى هذه «الطفرة الفكرية»، وصعوبة أخرى فى تحديد الموقع الذى انطلقت منه. نعرف أن مثل هذه الموضوعات المصيرية تنطلق عادة فى ظروف أزمة حادة يعانى منها مجتمع وتنطلق فى أمريكا خاصة من مراكز البحث وقواعد الفكر الكبرى، قبل أن تصل إلى أجهزة صنع القرار.

 

 اختلطت الأمور هذه المرة. هناك أزمة لاشك فى هذا، ولكنها ليست وليدة اللحظة فجذورها ممتدة فى حرب أفغانستان وفى الضرر الذى أصاب منظومة القيم بسبب جوانتانامو وتجاوزات الحرب ضد الإرهاب، وممتدة أيضا فى مشكلات فى قلب النظام الرأسمالى، وبالتحديد فى مواقعه المالية والمصرفية. الأزمة بهذا المعنى لم تقع فجأة بسبب هزيمة عسكرية أو كارثة طبيعية، ولكن بتدرج وتصاعد مستمرين، ولم تكتمل فى نظر جميع الأطراف إلا عندما صار واضحا أن جهود تسويتها أو الحد من خطورتها باءت بالفشل. من ناحية أخرى، لم نعرف المؤشرات الدالة على هذه الأزمة عن طريق تقارير ودراسات مراكز البحث كما جرت العادة، بل علمنا بوجودها، من خلال خطابات وممارسات وقرارات رسمية، أى من تدبير وصنع أعلى أجهزة الدولة.

 

•••

 

 أشير هنا إلى ثلاث مجموعات من هذه المؤشرات أعتقد أنها كانت كافية بالنسبة لى على الأقل للاقتناع بأن طفرة الاجتهادات حول مستقبل أمريكا انطلقت ولن تهدأ قبل أن يقع تغيير ما فى المنظومة السياسية الأمريكية.

 

 كان المؤشر الذى دفعنى أكثر من غيره إلى تركيز اهتمامى فى انتظار نقاشات جادة حول مستقبل أمريكا، هو التقرير الذى أصدره قبل أسابيع مجلس الأمن القومى الأمريكى تحت عنوان «اتجاهات عالمية: 2030». هذا التقرير، كما ذكرت فى مكان آخر، كان بمثابة البوابة التى أطلقت عقال المفكرين بعد أن اكتشفوا أن أعلى سلطة دفاعية وسياسية فى الدولة تعترف علنا بأن أمريكا بدأت طريق الانحدار، اكتشفوا أيضا أن هناك فى قمة السلطة وصنع القرار من وضع سيناريو بين السيناريوهات المحتملة لعام 2030، واختار السيناريو الأسوأ، وهو القائم على احتمال أن تتوقف مسيرة العولمة أو تنعزل أمريكا أو كلاهما معا.

 

•••

 

كيف تولد هذا الشعور بالخوف على العولمة، وإلى أى حد تغلبت الأوهام على الحقائق لتدفع السلطة الأمريكية إلى توقع توقف العولمة؟ أتحدث هنا عن المجموعة الثانية من المؤشرات الخطيرة التى أثارت اهتمامى، إذ تعددت الكتابات خلال الأسابيع الأخيرة التى ناقشت ظاهرة «انحسار العولمة»، وقدمت تحليلات وأرقاما وحقائق تثبت أن الانحسار بدأ بالفعل. يتحدثون الآن عن تباطؤ حجم الاستثمارات الأمريكية فى الخارج والحرص المتزايد من جانب المستثمرين خوفا على استثماراتهم بسبب المخاطر المتزايدة فى دول ناهضة ودول متخلفة عديدة. يكتبون عن مصارف كثيرة يجرى تأميمها فى أنحاء متفرقة من العالم، وعن سقوط رهيب فى قيم المهنة المصرفية والعاملين فى قطاعات المال. كثير من الكتابات التى أطلعت عليها تناقش مسألة تراجع حجم وقيمة التجارة الدولية فى الشهور الأخيرة، وانخفاض معدلات التبادل عبر الحدود فى الاتحاد الأوروبى باستثناء انتقال العمال، ويؤكدون على أن توقف العمل بأجندة مجموعة العشرين دليل لا يقبل الشك على انحسار العولمة. إذا كان صحيحا ودقيقا ما ينشر عن انحسار العولمة، فمن واجبنا أن نولى تقرير 2030 اهتماما أكبر، فقد بنى أحد أهم مشاهد مستقبل أمريكا على بقاء أو تراجع العولمة، باعتبار أن أمريكا لا يمكن أن تستمر قوة عظمى، أو تحتفظ بتفوقها، بدون استمرار العولمة فاعلة وصاعدة.

 

•••

 

 يدخل فى هذه المجموعة من المؤشرات الجدل الدائر حاليا حول سياسات بعينها، مثل اختيار الرئيس أوباما لشاك هيجل وجون كيرى وزيرين فى حكومته. بعض الجدل ذهب فى اتجاه تأصيل الخلفية الفلسفية للقرارين، اعتبارا من البعض بأنهما يعكسان قناعة لدى أوباما بأن أمريكا تنحدر. البعض يقول أن الانحدار وراءه أسباب خارجة عن إرادة أمريكا ومن هؤلاء باراج خنه Khanna، آخرون وعلى رأسهم بول كنيدى يعتقدون أن أمريكا مسئولة عن انحدارها بسبب توسعاتها الإمبراطورية وزيادة مسئولياتها الخارجية.

 

طرف ثالث يرفض الرأيين ويعتقد أن أمريكا ليست فى حالة انحدار وعلى رأس هذا الطرف بول كاجان من معهد بروكنجز وجورج فريدمان مؤسس موقع ستراتفور للأبحاث الاستراتيجية.

 

 فى صلب هذه المواقف تتعدد السياسات محل النقاش والجدل، مثل سياسة أمريكا فى الشرق الأوسط وبخاصة تجاه سوريا، وتجاه إيران وأفغانستان وباكستان. منها أيضا التخبط، أو ما بدا تخبطا، فى العودة إلى الاهتمام بالحلفاء الأوروبيين والضغط المبالغ فيه على بريطانيا لكى لا تنسحب من الاتحاد الأوروبى أو تقلل من روابطها به. منها أيضا، وهو المتعلق بنا، إعادة فتح ملف مستقبل التعامل الأمريكى مع الإسلام السياسى بعد أن كان الرأى قد استقر بين عديد المفكرين وصانعى القرار فى الغرب على أنه القوة السياسية الغالبة حاليا وعلى امتداد الأجل المنظور فى الشرق الممتد من غرب إفريقيا إلى حدود الصين شرقا.

 

 •••

 

 

  المجموعة الثالثة من المؤشرات تتعلق بمظاهر عودة نظرية المفكر الألمانى أوزوالد سبنجلر لتحتل مكانا متقدما فى الجدل الأمريكى الدائر حول انحدار أمريكا. خرج الآن من يزعم أن القضية لا تتعلق بانحدار أمريكا وحدها، وإنما بانحدار الغرب عموما كما تنبأ سبنجلر وكتابه الصادر عام 1922. جدير بالذكر أن معظم كبار علماء السياسة الخارجية الأمريكية تأثروا بهذا المفكر بشكل أو بآخر ومن هؤلاء هنرى كسنجر وجورج كينان وبول نيتشه وهانز مور جينثاو وراينهولد نايبور.

 

 تزداد أهمية العودة إلى هذا النوع من التنظير فى فلسفة التاريخ وصعود وانحدار الأمم عندما نعرف أن منظمة أفكار سبينجلر كانت المبرر «الأيديولوجى» إن صح التعبير لمبدأ هيمنة الحضارة الغربية وفكرة الاستثنائية الأمريكية وكلاهما أسسا لنظرية فرانسيس فوكوياما عن نهاية التاريخ. لقد اعتمد فوكوياما على مقولة أن الرأسمالية الديمقراطية هى «تاج البشرية وذروة التاريخ»، لذلك عندما نرى الرأسمالية فى أسوأ أزمة لها فى عمرها الممتد مئات السنين، ونرى أن الديمقراطية اختلطت بأموال الانتخابات ففقدت جوهرها نستطيع أن نتفهم الإقبال على اجترار مفكرين غربيين لنبوءة سبنجلر عن قرب انحسارهما فى الغرب.

 

•••

 

 تنبه صامويل هانتنجتون إلى أهمية ما طرحه سبنجلر حين رفض استخدام تعبير «حضارة عالمية». كلاهما اعتبر أن التاريخ يحكى قصة حضارة تأتى بعد حضارة، كل واحدة منها بثقافتها المتميزة تحاول نشرها فتنتشر ثم تنحدر. كل حضارة تختلف عن الأخرى، ولكل خصوصيتها. وبالتالى لا يمكن أن تنشأ وتستمر حضارة عالمية. تنبأ سبنجلر بين ما تنبأ بتناقص المواليد عند اقتراب نهاية كل حضارة من الحضارات الكبرى، تنبأ أيضا بانحدار الثقافة والتقاليد الشعبية وانتشار المدن الفائقة المساحة والحجم والعالمية المضمون والتكوين وصعود الحركة النسوية وتبنى الفقراء والعامة تطلعات النخبة. هذه التنبؤات وغيرها مجتمعة ترسم علامات الحضارة الغربية الراهنة.

 

•••

 

 الجدل دائر فى الولايات المتحدة والنقاش محتدم فالقضية تتعلق بمستقبل أمريكا لدى البعض وتتعلق بمستقبل الغرب بأسره لدى البعض الآخر. يخطئ من يظن أن مثل هذا الجدل لا يؤثر فى صنع السياسة الخارجية الأمريكية، أو فى مستقبل علاقاتها ببقية دول الغرب وعلاقاتها بنا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved