رسائل كأس الأمم

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الجمعة 17 فبراير 2017 - 11:15 ص بتوقيت القاهرة

كان البوست الأخير لصديقتى (ف) فى صفحتها على الفيسبوك هو البوست الذى كتبته تعليقا على حادث الكنيسة البطرسية، امتلأت كلماتها بالغضب وهى تشعر أنها لم تعد آمنة فى بلدها، صحيح أنها تزوجت وانتقلت إلى الإقامة فى بلد آخر لكن أهلها وذكرياتها وشبرا الحبيبة باقون فى مصر. فى أيام الثورة كانت صاحبتنا كتلة من النشاط تقضى معظم وقتها فى كنيسة قصر الدوبارة التى لُقبت حينها بكنيسة الثورة، تشترى المعلبات وزجاجات المياه المعدنية وتنقلها إلى الداخل فى حذر، تدعو كل من تعرف إلى التبرع بالدم لمتظاهر أصابه الرصاص لكنه أخطأ طريقه إلى «سويداء القلب»، تبلل منديلا بقطرات الخل لتسعف متظاهرا آخر ولا تقر إلا حين تنتظم أنفاسه، تجرب صوتها فى أغانى الشيخ إمام «البقرة انقهرت حاحا فى القهر انصهرت حاحا» فيخيل لها أن كل ما حولها يغنى معها حتى لوحات المسيح وحوارييه على الجدران، وتصلى لمصر كما لم تصل أبدا. أعادت لها الأيام الثمانية عشرة الروح على طريقة توفيق الحكيم وجربت خلالها معنى أن يعيش الكل فى واحد. فى الحقيقة لم تكن (ف) وحدها التى تغيرت، والدها أيضا تغير، فمن كان يتصور أن هذا الأب المحافظ يمكن أن يلين ويتسامح مع مبيت ابنته خارج المنزل، لا بل وسط أناس ربما تلتقيهم لأول مرة ــ صحيح داخل كنيستها لكن الجو كله كان يبعث على القلق: المصابون الغرباء، الغاز الخانق، زخات الرصاص، الأصوات الهادرة، الصراع على الميدان وكل هذا الكر والفر. مضت أيام الثورة كأنها حلم ومرت من ورائها أيام كثيرة، ولٓد حكم التيار الدينى روح التحدى عند (ف) وأيضا عند غالبية المصريين، فهذا الفكر وهذا الخطاب يشبهان أصحابهما لكنهما لا يشبهانها ولا يشبهان كثيرين مثلها، خرجت.. هتفت.. تظاهرت.. حتى إذا جاء يوم الثلاثين من يونيو ذابت وسط الجموع.

•••

من فترة ليست قصيرة اعتادت (ف) أن تسجل رأيها فى حدث أو آخر، هى ليست من مدمنى الفيسبوك لكنها أحيانا تلجأ إليه تشكو وتفضفض حد الصراخ. جملها قصيرة وموجعة، فى حوادث تهجير المسيحيين وحرق الكنائس كتبت، وعندما عرٓى سفلة الناس سيدة أسيوط كتبت، وحين قُتل تاجر الإسكندرية بخسة نادرة كتبت، أما كتابتها وقت تفجير الكنيسة البطرسية فكانت الأوجع، ليست هذه مصرنا ولا هذا قَدَرُنا أو قَدْرُنا نحن جزء من هذا البلد وهذا التاريخ وهذا التراب، كان التطاول على رمزية المكان صادما فقالت ما قالت ثم اختفت، فأى مفاجأة سعيدة أن تظهر مجددا يوم نهائى كأس الأم. قبل المباراة كتبت (ف) «كل الناس بتقول يارب»، وحين رحبتُ بعودتها ردت «نشرق ونغرب وهى جوارنا مش بتفارقنا لحظة»، وبعد المباراة كتبت «مش قادرة أتحمل دموع فريقنا ولا فرحة فريقهم»، وآه لو تدرين ما فعلته بى كلماتك يا صديقتى.

•••

منذ أن اتخذت أسعار السلع منحنى صاعدا وحديث الغلاء يمثل جزءا أساسيا من حوارى اليومى مع صاحبنا (م). هو واحد من ملايين الُأجراء الذين لا يقيمون وزنا للوقت إلا لكونه يترجم آخر النهار إلى أوڤرتايم وبالتالى إلى أجر إضافى. رجل ستينى هدٓه الخروج المبكر إلى سوق العمل والمسئولية الثقيلة عن «كوم من اللحم» وحلمه القديم الصعب فى أن يصل بأبنائه إلى بر الأمان. يدهشك الرجل حين تقارن نبرة صوته المحايدة وهو يحدثك عن وفاة أخيه ونبرته الغاضبة وهو يحكى لك عن ارتفاع سعر كيلو السكر أو عن جشع سائقى الميكروباص، تكتشف أنه يتأقلم مع ظاهرة الموت مع أنه يتفاعل بقوة مع متطلبات الحياة، هل يمكن أن تكون الحياة أشد وطأة من الموت؟. فى المباراة قبل النهائية فى كأس الأمم الأفريقية استأذن (م) لينصرف مبكرا ولم يكن فى ذلك جديد فكل المصريين فعلوا مثله، لكن أين تراه سيشاهد المباراة؟ أجابنى الرجل: على أول شارعنا يوجد مقهى يعرض مباريات الكأس على شاشة كبيرة مقابل عشرين جنيها للفرد وسوف أذهب مع ابنيٓ لتشجيع المنتخب الوطنى. هذا الرجل الطيب لا يكف قط عن إدهاشى، قبل يومين كان يشكو مُر الشكوى من زيادة جنيهين فى سعر زجاجة الزيت واليوم يُخرج من جيبه ستين جنيها لمشاهدة المباراة، لا يتكرر هذا الرقم كثيرا فى راتبه ومع ذلك سيدفعه. بعد فوز المنتخب كتبت لمسئول تربطنى به صلة طيبة أقول «هؤلاء الناس يحبون بلدهم أرجوكم لا تخسرونهم» فرد عليٓ مهدئا.

•••

أما هذه الفلسطينية الشابة فجاءتنى رسالتها من حيث لا أحتسب حين دخلت على مكتبى وأنا غارقة فى تصحيح أوراق امتحان منتصف العام فتعلقت بها تملصا من مهمة غير محببة. كانت (ر) من طالباتى السابقات اللائى احتفظت معهن بعلاقة جميلة تطورت إلى صداقة. منذ أن جلست أمامى لأول مرة فى قاعة الدرس لفتت انتباهى إليها، متقدة الذهن.. سريعة البديهة.. حاضرة الرد. حين كانت تقاطعنى أثناء المحاضرة لتضيف معلومة أو تطور معنى كنت أضحك وأمازحها قائلة: يا بنتى دعينى أكمل الفكرة، وأردد فى داخلى لن يُذَل أبدا شعب سلاحه التعليم. أنهت (ر) دراستها وعادت إلى غزة ثم اعتادت أن تزورنى كلما ترددت على القاهرة لأمر أو لآخر، وها هى تأتى لزيارتى فى يوم مباراة نهائى كأس أفريقيا. كان حبل الحديث ممتدا على غاربه بيننا حين قاطعتنى قائلة: يارب فرّح غزة اليوم. التقطتُ الرسالة وخفق قلبى بشدة لكنى أردت التأكد مما فهمته فسألتها: وكيف تفرح غزة اليوم؟ أجابت: حين تكسب مصر. يا الله! هل أعانق هذه الشابة؟ هل أكرر دعوتها؟ هل أخجل منها؟ لملمت أوراقى وخرجنا معا.

•••

لم أكن يوما من عشاق الكرة ومضى الوقت الذى أغير فيه من طبيعتى، لكن أظننى الآن أحتاج أن أتأمل كثيرا فى الرسائل التى تبعث بها هذه المستديرة ــ التى تسحر وتصهر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved