عن الجزيرتين «والمضيق» .. ملحوظات وأسئلة

أيمن الصياد
أيمن الصياد

آخر تحديث: الأحد 17 أبريل 2016 - 1:12 م بتوقيت القاهرة

ابتداءً وبوضوح، هذا المقال ليس عريضة دفاع أو ادعاء في قضية، إذ أعترف أنني لست أكثر المؤهلين علمًا أو خبرةً لذلك، كما أن المنطق المجرد يقول أن أمرًا بهذه الخطورة كان ينبغي أن تقوم عليه لجنة «قومية» نزيهة (لا لجنة حكومية سرية) مثلما كان حال اللجنة «القومية» التي تولت قضية طابا والتي ترأسها في حينه الفقيه القانوني «المعارض» (أكرر: المعارض) دكتور وحيد رأفت.

  

من تظاهرات «جمعة الأرض» - تصوير عمرو نبيل (AP)

ما شهدناه في تلك القضية وتداعياتها كان، بلغة القانونيين «كاشفا» لأسلوب حكم وإدارة لا أحسبه ينتمى لهذا العصر. فضلا عن أنه كان «منشئا» لتداعيات لا أظن أحدا كان متحسبا لها، أو بوسعه (في منظومة الرجل الواحد) أن يُحذر منها

هذه السطور إذن ليست مبحثا قانونيا أو تاريخيا في أحقية هذا الطرف أو ذاك في الجزيرتين، وإنما هي سرد لحقائق وملحوظات وأسئلة غابت (رغم أهميتها) عن «الخناقة» الدائرة.

………

 

بداية، وفضلا عن أننا للأسف لم نطلع حتى اللحظة على نصوص الاتفاقية أو ملاحقها ـ علينا أن ندرك أنه ككل نزاع / خلاف حدودي، هناك حجج متبادلة. وفي شأن الجزيرتين تحديدا هناك ثلاثة آراء متباينة أشار إليها الدكتور أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية القدير، والعميد الأسبق لمعهد الدراسات العربية في مقال مهم بالأهرام الحكومية الخميس الماضي ١٤ أبريل ٢٠١٦

أيا ما كان أمر الآراء المتباينة، يبقى على هامش القضية التي تجاوزت «حدودها» لتستدعي كل ما تراكم في النفوس والصدور ـ ملحوظات قد تبدو لا صلة لها بحجج قانونية أو تاريخية، ولكنها كانت هناك، وربما تظل هناك، حتى بعد أن يُغلق ملف القضية على مافيه من خرائط ووثائق وخطابات:

١ ـ أن كثيرا جدا من الحوار / اللغط حول الموضوع / القضية شابه ما شاب كل حوار في مصر من استقطاب وهوى وتحيزات ومصالح، أو في أحسن الأحوال عواطف ومشاعر لا تسمح بمنطق أو تجرد أو موضوعية.

٢ ـ أن ما شهدناه في تلك القضية وتداعياتها كان، بلغة القانونيين «كاشفا» لأسلوب حكم وإدارة لا أحسبه ينتمى لهذا العصر. فضلا عن أنه كان «منشئا» لتداعيات لا أظن أحدا كان متحسبا لها، أو بوسعه (في منظومة الرجل الواحد) أن يُحذر منها

٣ـ أنه وبغض النظر عن منطق المساجلات القانونية والتاريخية، يبقى من باب «اللا سياسة» (بالنظر إلى ما انتهينا إليه من آثار) أن يرتبط الإعلان عن اتفاقية الحدود باتفاقات اقتصادية، مما أعطى انطباعا يمس الكرامة مذكرا البعض بالأوبريت الإذاعي الشهير الذي سرعان ما احتلت الإشارة إليه موقعا متقدما في سجل الموضوعات الأكثر انتشارا في تعليقات مواقع التواصل الاجتماعي، كما كان من أثر ذلك أن شاب تعريف «الوطنية» عند أجيالنا الجديدة كثير من اللغط.

٤ـ أن الاستقطاب «المصري» كان واضحا وبيّنا ومَرضيّا. وأن صفرية المعركة بين طرفيه كانت كافية لأن يستشهد الإخوان بعبدالناصر (!) وأن تستشهد الدولة التي كانت قد حذفت اسم البرادعي من كتبها المدرسية بفقرة استلت من سياق مقال قديم.

٥ـ أن العلاقات المصرية السعودية (شعبيا) لم تتضرر في تاريخها مثلما تضررت للأسف من جراء ما شاب هذا الاتفاق. أو بالأحرى ما شاب أسلوب إدارته وسياقات الإعلان عنه. وعلى المهتم برصد ما جرى (شعبيا) أن يعود إلى ملاسنات «شوفينية» تجاوزت كل حد من شأنها أن تترك ندوبا لن تندمل للأسف قبل وقت طويل.

أرجو أن يدرك الأشقاء في المملكة أن الجدل الدائر في مصر، مهما كان ساخنا هو جدل داخلى بحت

٦ـ ربما يتصل بذلك أهمية أن يدرك الأشقاء في المملكة أن كل حوار «عاقل» جرى في مصر هذا الأسبوع، لم يكن ذا صلة بهم؛ شعبا شقيقا أو دولة عربية مسلمة. فالاحتقان داخلي، وله أسبابه المتراكمة. والمشكلة داخلية بامتياز وتوصيفها لا يخرج عن أن يكون في المسافة الشاسعة بين مواطنين يظنون بحكم الدستور أنهم مشاركون في القرار «والحكم»، ونظام حكم يطلب منهم الصمت، ويطلب من «نوابهم» الاستئذان قبل التجرؤ بالحديث.

٧ـ أن مفعول «التخدير» بالتحذير من الإخوان قد نفد، بعد أن مرت أعوام ثلاثة على خروج الإخوان من المشهد إلى السجن، كما لم يعد منطق «بص العصفورة» مُجدٍ في التعامل مع العالم الخارجي (قضية ريجيني مثلا)، أو في مواجهة تذمر حقيقي بدت بوادره غير مرة؛ ليس آخرها احتشاد آلاف الأطباء في جمعيتهم العمومية قبل أسابيع احتجاجا على ممارسات أمنية باتت مألوفة.

 ٨ـ أن كل دارس للتاريخ أو الجغرافيا السياسية وإن كان يعرف كم تغيرت الخرائط عبر التاريخ الإنساني، إلا أنه يعرف أيضًا أن تعيين الحدود «تقنيا» بالوقوف عند لحظة معينة (مستلة من سياق التطور التاريخي) اكتفاء بخطاب من وزير أو غفير (سبقته خطابات ووثائق وتلته أخرى) يصبح من باب العبث، أو بالأحرى من باب «السياسة». وكل ما هو من باب السياسة، لا يستقيم الحكم فيه دون الرجوع إلى أصحاب الشأن والقرار، والذين هم في أى بلد ديموقراطى «مواطنوه».

٩ـ أن كل ما هو من باب السياسة، إنما يعكس موازين القوى على الأرض. والحاصل أن مثله مثل ما جرى «واقعيا» مع مشروع «القوة العربية المشتركة» فهذا الاتفاق ليس أكثر من تجسيد لمعادلات جديدة للقوى الإقليمية.

١٠ـ أن المفاوض السعودي، كان كما أتصور متسقا مع نفسه ومكانه على طاولة المفاوضات، ولكني لا أذكر أنني قرأت في تاريخ أى بلد أن مسئوليه وبعضا من نخبته تفرغ للبحث عن الأدلة والوثائق التي تثبت «عدم أحقيته» في موضوع النزاع (كما رأينا طوال أسبوع في تصريحات المسئولين المصريين وإعلامهم الموجه)، والذي إن سلمت بما يقولونه لك، فلا بد أن تتساءل: فيما إذن كان التفاوض لست سنوات كاملة كما قالوا لنا؟! وأين هي الوثائق التي كان الطرف المصري «المفاوض» يضعها على الطاولة طوال تلك السنوات الست.

…………………

هي دولة «الراعي والرعية»، والسمع والطاعة.. لا فارق هنا بين خليفة أو أمير أو رئيس

هذه ملحوظات عشر على هامش ملف القضية، أو ربما في القلب من تداعياتها، وسياقات ما أخذتنا إليه. ثم يبقى بعد ذلك (أو بالأحرى قبله)  أنه لم يعد خافيا على أحد أن طريقة الاتفاق، وسلوك المسؤولين حيال إبرامه، أو تجاه ردود الفعل عليه إنما يجسد أزمة «الثقافة الأبوية الحاكمة». لا فرق هنا بين نظام ملكي يُتهم بالرجعية ونظام جمهوري يدعي التقدمية. كما لا فارق هنا بين خليفة أو أمير أو رئيس. بل لا فارق بين الثقافة الحاكمة لكل هؤلاء، وبين تلك الحاكمة لفكر أبوبكر البغدادي («خليفة» القرن الحادي والعشرين). هي دولة الراعي والراعي. لاحظ أن الرئيس «الوارث» لأكثر الجمهوريات العربية تقدمية طلب من مواطنيه أن «لا يتحدثوا في موضوع الجزيرتين مرة أخرى» بعد أن كان قد طلب منهم قبل أسابيع ألا يسمعوا لأحد غيره. هي عقيدة «السمع والطاعة» إذن. سواء بايعتم عليها مرشدا للإخوان المسلمين، أو تصور رئيسٌ يُفتَرض أنه مدنى، وأنه يعرف أننا في القرن الحادي والعشرين أن على مواطنيه أن يبايعوه عليها.

***

 

مضيق تيران

تذكروا أن إسرائيل مازالت هي إسرائيل، وأن في المستقبل كثيرا جدا مما لا يمكننا التنبؤ به

أيا ما كان أمر الملحوظات على هامش ما جرى. وهي كثيرة. وأيا ما كان أمر الاختلاف القانوني أو التاريخي (الذي يجب ألا يفسد للود قضية بين الشعبين الشقيقين، كما كان ينبغي ألا يفسد للود قضية بين المختلفين في الرأي من أبناء الشعب الواحد) تبقى حقائق أساسية تستدعي أسئلة أخشى أنها تاهت وسط الصراخ والضجيج والاتهامات المتبادلة.

أولى الحقائق «المجردة»، في زمن عزت فيه الحقائق المجردة أن جزيرتي «تيران وصنافير» هما جزيرتان تقعان عند مدخل خليج العقبة. وتصنع الجزيرتان طبيعيا ثلاث ممرات من وإلى الخليج، الأول منها بين ساحل سيناء وجزيرة تيران،  وهو الأصلح للملاحة (عمقه ٢٩٠ مترا) واسمه ملاحيا ممر «إنتربرايز». والثاني أيضا بين ساحل سيناء وجزيرة تيران، واسمه «جرافتون»، وعمقه لا يتجاوز (٧٣ مترا)، في حين يقع الثالث بين الجزيرتين «تيران وصنافير». وعمقه ١٦ مترا فقط، وتكمن أهمية الجزيرتين (غير المأهولتين) في موقعهما على «بوابة» خليج العقبة.

والحاصل أن المصريين ربما لم يكونوا قد سمعوا عن «مضيق تيران» الذي أصبح اسمه محفورا في الذاكرة الجمعية لجيلنا قبل أن يقرر جمال عبدالناصر إغلاقه (مايو ١٩٦٧) في خطوة أوضحت الأهمية الاستراتيجية للمضيق بعد أن اعتبرتها إسرائيل تهدد أمنها القومي، ومن ثم «إعلان حرب».

لا أحد يجادل إذن في الأهمية الاستراتيجية للمضيق. كما أنه وبغض النظر عن ما تقوله الوثائق أو يقوله هذا أو ذاك، كما أنه وبغض النظر عن جدل الناظرين تحت أقدامهم، يبقى ما فهمته ممن سألت من مختصين يطرح سؤالا يحتاج إلى أن ندقق فيه النظر من منظور الأمن القومى البحت. ومفاده أن بقاء الجزيرتين مصريتين خالصتين يجعل من مضيق تيران (المنفذ الوحيد لخليج العقبة، ومن ثم لميناء إيلات الإسرائيلى) مياها إقليمية «مصرية»، يصبح بوسع مصر (في حالة الحرب، أو في حال ألغيت اتفاقات كامب ديفيد) إغلاقه، أما في حال كانت تيران غير مصرية (سعودية أو غيرها) يصبح المضيق واقعيا مارا بين شاطئين لدولتين، وبالتالي ومن الناحية القانونية لا يكون لمصر «السيادة» عليه، ولا يصير بإمكانها حتى في حال إلغاء معاهدة السلام مع إسرائيل أو في حال الحرب التحكم فيه أو إغلاقه.

من منظور الأمن القومى أيضا لا يمكن لباحث مدقق، أو لرجل دولة أن ينظر في اتفاقية الحدود تلك دون أن يعود إلى ما سبق نشره من دراسات جادة لحفر قناة تصل بين البحرين الأحمر والميت Red Seaــ eDeadSea Water Conveyanc؛ حلم تيودور هيرتزل القديم (هنا الروابط الخاصة بدراسات البنك الدولى لمشروع القناة)، كما لا يمكن له إلا أن يتساءل عن إلى أى مدى يؤثر الاتفاق، في حال تم التصديق عليه على ما يمكن أن يطرأ مستقبلا من نزاع مصري إسرائيلي حول منطقة أم الرشراش التي احتلتها القوات لإسرائيلية في مارس ١٩٤٩ ليعلن بن جوريون رسميا في ١٠ يوليو أنها أصبحت ميناء إسرائيليا (إيلات) وأن ملاحة السفن الإسرائيلية باتجاه المحيط الهندي سيحميها الجيش الإسرائيلي؟

لا أعرف الإجابة. ولكنني أعرف أن إسرائيل مازالت هي إسرائيل، وأن في المستقبل كثيرا جدا مما لا يمكننا التنبؤ به،

***

وبعد..

فصحيح أن تظاهرات «جمعة الأرض» لن تعيد الأرض. ففي بلد لا يستمع مسئولوه إلى مواطنيه، لا شىء يتغير. «خليهم يتسلوا»، قالها مبارك قبل أسابيع من الإطاحة به.

وصحيحٌ أن إنهاكا شعبيا، وفقدانا للأمل، وغسلا للأدمغة، فضلا عن التحذيرات / التهديدات الأمنية «الاستباقية»، والعنف غير المبرر والقنابل المسيلة للدموع، وحالة «اللا يقين» لم تسمح كلها بأن تكون التظاهرات بأكبر مما كانت عليه.

ولكن، رغم أن ذلك كله صحيح، يبقى صحيح أيضا أن «الرسالة» من تظاهرات الجمعة الماضية، وإن صمّ البعض آذانهم ــ كانت أكبر بكثير من حجمها، كما أنها بالتأكيد أكبر بكثير من نتائجها. وربما أهم سطورها، أن قانون التظاهر المعيب قد ينجح في سجن هذا أو ذاك، كما قد ينجح في قمع تظاهرة لخمسة أو عشرة أفراد، لكنه لن ينجح أبدا في إسكات الناس، أو تحقيق رغبة الحاكم، أيًا من كان الحاكم في أن يصمت مواطنيه

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

لمتابعة الكاتب:

twitter: @a_sayyad

Facebook: AymanAlSayyad.Page

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

روابط ذات صلة:

ـ  المادة ١٥١ من الدستور المصري
ـ أسئلة تاريخية من فريق «صفحة الموقف المصري» للسادة المسؤولين
ـ

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved