«شمعة تحترق»..
محمود قاسم
آخر تحديث:
الجمعة 17 أبريل 2020 - 9:40 م
بتوقيت القاهرة
ترى هل يمكن أن يأتى يوم أستكمل فيه مشاهدة كل الأفلام المصرية المتاحة، وغير المتاحة، لى؟
هذا حلم يراودنى طول العمر، يبدو أنه يتحقق ببطء شديد فى زمن اليوتيوب، فعندما بدأنا كتابة هذه المقالات قبل عامين تصورت أن القائمة تتناقص فى العثور على افلام مجهولة للكتابة عنها، لكن دوما هناك افلام تخرج من جحور الإخفاء، ويتم اكتشاف أنها موجودة على اليوتيوب، لدرجة أننى أمتلك الآن عددا لابأس به من مسودات المقالات لأسابيع قادمة تنتظر دورها فى النشر.
فيلم اليوم بالغ الأهمية فى تاريخ السينما، فهو يجمع بين عزيزة أمير ويوسف وهبى بعد سنوات من حلم التعاون السينمائى معا، خاصة أن عزيزة أمير بدأت حياتها فى مسرح يوسف وهبى.. الفيلم هو «شمعة تحترق» كتبه وأخرجه، وقام ببطولته يوسف بك وهبى عام 1946، وهو من إنتاج الشركة التى أسستها مع زوجها محمود ذو الفقار الذى لم يكن له أى وجود فى الفيلم عدا اسمه كصاحب الشركة من خلال العنوان الأول فى الفيلم، فهناك الاسمان مصحوبان بكلمة «إيزبيس فيلم»، وهو أمر يدعو للتساؤل باعتبار أن الثنائى كان حريصا على التعاون معا، ولاشك أن عزيزة أمير اهتمت دوما بدفع زوجها إلى الأمام، كما أنها ارتضت هنا، مع تقدم السن، أن تراهن على صباح، النجمة الجديدة القادمة من لبنان، التى تهافت المنتجون عليها بشدة.
فى البداية، يجب معرفة أن يوسف وهبى كان كاتبا متميزا للحوار، ولا أعرف لماذا لم يقم أحد بتجميع مسرحياته ذوات الفصل الواحد التى كان ينشرها فى مجلة الكواكب وغيرها، هو الكاتب نفسه الذى كتب نصوص أفلامه ومسرحياته، ولم يكن يقوم بوضع مسافة بين الحوار فى المسرحيات ومثيله فى الأفلام، وهو حوار مكتوب بلغة فصحى سلسة، ومن النادر أن نجده يخرح عنه، لكنه مع الزمن تخفف قبل أن يترك التأليف تماما ويعمل فيما يكتبه الآخرون، وقد ساعدته لغاته على اقتباس أغلب النصوص من مصادر عالمية، أغلبها فرنسي، باعتبار أن المسرح الفرنسى هو الأقرب إلى الذائقة المصرية ومن بينها اعمال بومارشيه التى قدمها مثلا فى «عريس من إسطنبول» لكن لو نظرنا إلى فيلم «شمعة تحترق»، فمن الصعب معرفة المصدر الاساسى، لكنك سوف تشم مذاق الروايات الشعبية، خاصة رواية «ملك الحديد» لجورج أونيه، فجميعنا يعرف المشهد الرئيس الموجود فى الكثير من الأفلام المصرية الذى تعترف فيه العروس ابنة الاصول لعريسها ابن الأكابر أنها أخطأت مع رجل آخر، وتطلب منه التصرف، وسوف نرى هنا تشابها فى المواقف والمصائر، واختلافات فى التفاصيل باعتبار أن الفيلم كله يدور حول الاعتراف ليلة الزفاف، ففى رواية أونيه فإن الزوج يتقبل الأمر، وهو العاشق المتيم، لكنه عند يوسف وهبى ينسى شاكر بك عشقه الكبير لعروسه سميرة هانم، ويتعامل بقسوة مع العروس، ويأمر بطردها لساعتها من المنزل، ثم يؤخر الطرد إلى الصباح، وعندما يحل النهار، يأتيه الخبر أن حماته فردوس مصابة بسكتة دماغية، فيؤجل أمر الطرد إلى ما بعد فترة طويلة، حتى يظهر العاشق الوغد حمادة نور الدين فى حياة الاسرة من مدخل انه يود الزواج من الابنة عنايات، التى تجسدها صباح، ليخرج المؤلف تماما من القصة الأصلية، ولعله استعان بمصدر آخر لا نعرفه.
لاشك أنه حدث كبير بالنسبة لعزيزة أمير أن يكون معها استاذها الذى كانت له من السلطة والجاذبية أن يمتلك فى الفيلم مثل هذه السطوة والمكانة الاجتماعية، فهو وكيل النيابة، المهاب للغاية، الأرمل الذى أرسل ابنته إلى سويسرا للتعلم، وهو المغرم بجارته المنطوية على نفسها، الموجودة فى المصيف بالاسكندرية.
يعرف المؤلف تماما أن وسط الحدث هو قمته، لذا نسج السيناريو ببراعة جعلتنا نترقب ما سوف يحدث ليلة الزفاف، قجعل كل الخيوط تتشابك معا حتى حانت اللحظة، منذ أن رمت الفتاة بنفسها فى النهر بهدف التخلص من حياتها ثم إنقاذها واعترافها لأمها أنها أخطأت مع رجل وهى مهزوزة نفسيا، ومثلما كذبت سميرة وأخفت اسم العاشق الوغد، فإن الأم التى تجسدها فردوس محمد تكذب هى الأخرى على زوجها الذى تعيش معه، وهو ليس بوالد ابنتها، وعليه فإن منير يهدد زوجته فى مستقبلها معه لو اكتشف أنها لم تقل كل الحقيقة.
كل هذه الخيوط تصنع التوتر وتجعلنا ننتظر طويلا لحظة الاعتراف، فوكيل النيابة المرموق مغرم صبابة بسعاد هانم، ويستنشق أن تكون زوجته، وهى تتأخر فى الموافقة على الاقتران به، ولك أن تتصور أن عزيزة أمير فى تلك الفترة كانت فى الخامسة والأربعين تقوم بدور فتاة لم تتزوج بعد، مشتهاة من الرجال، كما تتشابك الخيوط أيضا بعودة الابنة الوحيدة عنايات من الخارج والتى تشجع أباها على الزواج من الجارة، وتغنى لهما ليلة العرس، وهى التى تحب شخصا قابلته فى غربتها وتنتظر الزواج منه، كى نكتشف انه الرجل نفسه الذى أغوى سعاد من قبل، وأنه خدع أيضا الكثير من النساء، هؤلاء اللاتى تنافسن على اطلاق الرصاص عليه لتذهب الاحداث، بعد ذلك، إلى المحاكم.
الفارق بين المرأة عند أونيه انها لم تكذب، ولم يعرف أحد سرها، أما سعاد هانم فى «شمعة تحترق» فهى تكذب على الجميع، وغالبا ما كان عقاب هذا النوع من النساء فى الأدب الغربى بالغ القسوة. قد يكون الموت، فالفتاة كذبت على أمها، ثم كررت الكذب على عريسها ليلة زفافهما بأن ابلغته أن الرجل الذى اخطأت معه مات، كما كذبت على ابنة زوجها، وكانت الصدمة أن استقبلت حبيب الفتاة حمادة نور الدين، لتكتشف أنه عشيقها السابق، ليدخل الفيلم فى مواقف متتابعة، وتظهر نساء أخريات، منهن زوجة للرجل الذى هجرها منذ سنوات، جسدتها روحية خالد فى أسوأ أدوارها على الاطلاق.
الجدير بالذكر أن يوسف وهبى جسد دورا مشابها فى فيلم «ضربة القدر» تم انتاجه فى العام التالى مأخوذ عن رواية «مادلين فيرا» لإميل زولا جسد فيه الدور نفسه، لكن الشاب العائد الذى سبق أن غرر بزوجته، ويهددها من جديد أخوه الذى يعيش معه فى البيت نفسه.
لاشك لأن يوسف وهبى من أقدم المخرجين السينمائيين فى مصر والعالم، الأكثر تأثيرا فى أداء الممثلين الذين يعملون معه، لأنه كاتب ومخرج ومنتج غالبا، وممثلا أمامهم، أى انه موجود مع النص والعاملين معه خارج مكان التصوير وبداخله، وهو حالة خاصة حيث إن العاملين معه هم زملاء فى المسرح، وهو يستعين بهم من فيلم لآخر، ومنهم روحية خالد التى لعبت دور فتحية التى قتلت زوجها، وكانت منذ فيلمها الأول «أولاد الذوات» أمامه، ثم رأسناها فى «الدفاع» و«أولاد الفقراء»، وفى العام نفسه لانتاج «شمعة تحترق» كانت معه فى «ملاك الرحمة» ونشهد أن أداءها فى أفلامها الأخرى كان مختلفا، ومنها دور الحبيبة فى «سلامة فى خير» لكنها عندما تدخل عرين يوسف وهبى تبدو طيعة لاسلوبة فى المبالغة، وتثير الحيرة وتنسى أنها تعمل فى السينما، وهكذا فلم يكن المخرج فى أحسن حالاته مع أمثالها، وكان يبدو راضيا عن اسلوبه السائد، والغريب أنه نضح على أحمد علام الذى قدم شخصية منير زوج الأم قردوس، لكنه لم يتمكن ابدا من تلقائية سراج منير الذى أدى دور صديقه المحامى رفعت، فهو الرجل المرح المقبل على الحياة، الذى يتمكن من تجاوز المشاكل، كما أن المخرج لم يستطع أن يترك أثره على صباح فى دورعنايات، حيث اتسمت بتلقائية ساعدت فى سرعة تقدمها والاقبال عليها، فهى البنت المدللة صاحبة الصوت المبهج الجميل التى تغتى لأبيها واسرتها ليلة الزفاف، وأيضا ساهمت بعد الافراج عن سعاد هانم أن تعود إلى الدار.