الهامش الأخير

عمرو حمزاوي
عمرو حمزاوي

آخر تحديث: الجمعة 17 يونيو 2016 - 8:35 م بتوقيت القاهرة

ليس التوقف عن كتابة المقال اليومى بالأمر الهين. خلال السنوات الثلاث الماضية، تحول «هامش للديمقراطية» فى جريدة الشروق إلى مساحتى الرئيسية للاشتباك مع المواطن المهتم بالشأن العام والتعبير العلنى عن الرأى فى بعض مما يجرى فى بر مصر. خلال السنوات الثلاث الماضية، منحنى الهامش فرصة حقيقية ومتجددة لمحاولة شرح أدوات السلطوية الجديدة، وتحليل شىء من وقائع جمهورية الخوف التى أسست لها، وتفنيد فساد مقايضتها الخبز والأمن بالحق والحرية دون إنكار لأهمية المطالب الاقتصادية والاجتماعية للناس، والتضامن مع ضحايا المظالم والانتهاكات، وكذلك للاختلاف أحيانا مع أصوات تتبنى مخلصة الدفاع عن العدل وحقوق الإنسان وسيادة القانون وتتمسك بالأمل فى غد ديمقراطى.

اجتهدت قدر استطاعتى لتوظيف الهامش على هذا النحو، وناصية الحكم على حدود الإجادة والخطأ يملكها فقط القراء الكرام. اجتهدت قدر استطاعتى، وأعتذر من القراء عن نواقص وضعوا اليد عليها بكل تأكيد، وعن أوجه للقصور أزعجتهم وحالت بين الهامش وبين الوصول إلى عدد أكبر من الناس. أعتذر من القراء، وأشكر من صبر منهم على المتابعة الدورية للهامش كما أشكر إدارة تحرير جريدة الشروق على مجمل تحملها لمقالات يومية عن قضايا حقوق الإنسان والحريات فى ظرف مصرى تهيمن عليه السلطوية الجديدة ويغلق به الفضاء العام ويفرض فيه الخوف من التعبير الحر عن الرأى حقيقة أولى.

***

أفدت من الهامش كثيرا. غير إننى، وأصدقكم القول القراء الكرام، بت أشعر خلال الأشهر القليلة الأخيرة بشىء من الضجر عند كتابة المقال اليومى. فظرفنا المصرى لا يتغير كثيرا، ولا تأتى الأحداث ومجريات الأمور سوى بالمزيد من الدلائل على تمكن السلطوية الجديدة من مؤسسات وأجهزة الدولة وتغولها على المجتمع وقمعها للمواطن تهديدا وتعقبا وعقابا.

والناس فى بلادنا على حالهم. هم بين مؤمل فى الخبز والأمن الذين تعد بهما السلطوية «احترم قناعاته، واعترف بإخفاقى فى كسبه لصف الفكرة الديمقراطية التى تربط بين العدل والحق والحرية وبين التنمية والتقدم»، ومتحمس لحديث الإنجازات الرسمى ولمقولات التآمر وأهل الشر «لا ألوم عليه أبدا، فماكينة غسل الأدمغة وتزييف الوعى لم تتوقف حركتها منذ صيف ٢٠١٣ والأمل المراوغ والمشروع فى غد أفضل يحدو الكثير منا»، ومنصرف عن حديث ومقولات السلطوية يترجم الانصراف إلى عزوف وفقدان للأمل «وهنا جل من تبقى من أصدقاء وزملاء»، ومعارضة سلمية للسلطوية صدمتها مرارا ببعض آرائى وصدمتنى هى أحيانا بتجاهل ما ظننته مقتضيات النظر الموضوعى.

وربما تنامى الشعور بالضجر عند الكتابة اليومية بسبب ابتعادى عن مصر، وعجزى من ثم عن متابعة الأحداث اليومية على نحو يسمح بالكتابة بحيوية وفاعلية عنها، والربط بينها وبين تناول قضايا الحقوق والحريات بأسلوب ومضمون يحفز القراء على المتابعة. وبصراحة، حاولت خلال الأشهر القليلة الأخيرة ممارسة شىء من التحايل على العجز والهروب من الظرف المصرى والانفتاح على معالجة منظمة للشئون العربية والأحوال العالمية، وهى تحمل مما يستحق الشرح والتحليل الكثير والكثير. غير إننى سرعان ما تثبت من حضور درجة أعلى من الملاءمة لتناول الإقليم والعالم فى مقال السبت الأسبوعى مقارنة بالهامش اليومى للديمقراطية.

***

وللضجر صلة قاطعة بتراجع طاقتى على احتمال ذلك القدر المتكرر من الاجتزاء فى المقالات اليومية. أسجل ذلك مع عظيم امتنانى لإدارة التحرير فى الشروق المحترمة، التى مكنت للهامش أن يتواجد وسمحت لى بمواصلة الكتابة الصحفية حين تعقبنى آخرون، ودافعت ومازالت عن حرية التعبير عن الرأى محتضنة مجموعة بالغة التميز من الكتاب فاخرت دوما بالانتساب إليهم وسيشرفنى البقاء بصحبتهم من خلال المقال الأسبوعى. أسجله مع إدراكى لضغوط الظرف السلطوى فى مصر على إدارة التحرير، واضطراره لها للتحايل بالاجتزاء وغيره لكى تتمكن من الحفاظ على مساحات الكتاب المتميزين ومساحتى المتواضعة ولكى تنجح فى الحفاظ على صوت الشروق الموضوعى. أسجله دون إغفال للإشادة المستحقة والشكر الواجب للصديق الأستاذ عماد الدين حسين والأستاذ العزيز جدا جميل مطر والصديق الأستاذ إكرامى عبدالستار وزملاء آخرين على عونهم الحقيقى ومساعدتهم الدائمة.

أسجله لأن فعل الكتابة يجعل من الكلمات والعبارات والأفكار بعد الانتهاء من صياغتها نصا متكاملا هو فى عين الكاتب أغلى ما يملك، ومصدرا لشعوره بشرعية الوجود والدور والحق فى التواصل المباشر مع القراء، ومعيارا للتقييم الذاتى ولتقييم القراء لاتساق الكاتب مع ما يدعى الاهتمام به والدفاع عنه. ولهذا يظل إعمال الاجتزاء فى المقالات قصرت كلماتها وعباراتها أو طالت مدعاة لشعور الكاتب بخليط من الألم والحزن والعجز والضجر، ومدعاة أيضا لمحاولة لا تتوقف أبدا للمقاومة والبحث عن بدائل. وبديلى اليوم هو التركيز على كتابة مقال السبت الأسبوعى، والاعتماد عليه لجهة تناول قضايا الحقوق والحريات بفاعلية، والتواصل الدورى مع القراء الكرام، والتحايل على الاجتزاء هربا من القيود، والحد من الشعور بالضجر.

***

خلال السنوات الثلاث الماضية كان الهامش كالرحلة اليومية التى تناقلتنى بين مواضع مختلفة، وأفدت منها أخلاقيا وإنسانيا وفكريا الشىء الكثير. وها هى الرحلة تصل إلى موضع يلزم بتبديل المسار، دون تغيير للوجهة أو الهدف، موضع يحدونى معه الأمل فى تفهم القراء الكرام لأسباب توقفى عن كتابة المقال اليومى، وفى تقبلهم للمقال الأسبوعى كوسيلة تواصلنا الرئيسية.

أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة

بت أشعر خلال الأشهر القليلة الأخيرة بشىء من الضجر عند كتابة المقال اليومى؛ فظرفنا المصرى لا يتغير كثيرا، ولا تأتى الأحداث ومجريات الأمور سوى بالمزيد من الدلائل على تمكن السلطوية الجديدة من مؤسسات وأجهزة الدولة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved