المشروع الصاروخى المنسى

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأحد 17 يونيو 2018 - 9:20 م بتوقيت القاهرة

هذا ملف منسى مودع فى أرشيف تقادمت عليه العقود.
لم يحدث مرة واحدة أن فتح بجدية وجرى النقاش فيه بموضوعية.
عنوان الملف نفسه مثير: المشروع الصاروخى البالستى المصرى.
فى أزمات دولية ماثلة، كالاتفاق النووى الإيرانى والأسلحة النووية الكورية الشمالية، يتبدى نوع من الربط بين الصناعتين النووية والبالستية، فالقوة النووية تحتاج لما يحملها إلى بعيد.
كما يتبدى سؤال: هل حاولنا فى لحظة ما؟ ولماذا توقفنا؟
بغض النظر عن اختلاف التجارب والعصور والنظم فإن فكرة المشروع الصاروخى جديرة بالاهتمام والتوقف عندها بالتدبر.
كان من بين أهداف العمليات العسكرية الإسرائيلية فى (٥) يونيو (١٩٦٧) وقف نمو القدرات التسليحية المصرية قبل أن يصل مشروعها الصاروخى آخر مراحله.
القصة شبه مجهولة ونالتها تشويهات انتقصت من حقيقتها وسخرت منها بالعمد، أو بالجهل.
حسب عبارة حزينة، تضمنها كتيب موثق عن «قصة صناعة الصواريخ والطائرات المصرية» لأحد المشاركين فى ذلك المشروع «محمد ضيائى نافع»: «سامحهم الله من كانوا السبب فى إيقاف هذه الصناعة».
كانت صناعة الصواريخ والطائرات المصرية، التى بدأت أواخر عام (١٩٥٩) عملا جادا ودءوبا ومشتركا مع فريق من كبار العلماء والخبراء الألمان يترأسه البروفيسير «فولفجانج بيلز».
لم تكن عملا دعائيا بقدر ما كانت محاولة لتأسيس صناعة عسكرية متقدمة بمعايير زمنها واكتساب القوة اللازمة لردع أى عدوان محتمل.
كانت إسرائيل تتابع وتتحسب وتعمل على قطع الطريق بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة على المشروع الصاروخى المصرى.
كانت حربا حقيقية.
فى شهر ديسمبر (١٩٦٢) وصلت رسالة إلى منزل البروفيسير «بيلز»، الذى كان قد صمم صاروخى «القاهر» و«الظافر»، حيث كان يجلس على رأس مائدة اجتماعات وحوله عدد من مساعديه.
عندما أخذت سكرتيرته «هنيلورا فندا» فى فرز الرسائل التى وصلتها قبل عرضها عليه دوى انفجار شديد هز المكان.
كانت الرسالة تحتوى على مادة شديدة الانفجار ومفجر متصل بدائرة كهربائية وبطارية دقيقة جدا ورقيقة لا شك أنها مثل التى تستخدم فى الساعات حاليا.
بمجرد سحب ما بداخل الرسالة وإخراجه اكتملت الدائرة وحدث الانفجار المدوى.
أصيبت السكرتيرة بالعمى الكامل وحدثت إصابات أخرى جسيمة.
كانت تلك ضربة ترويع أولى للخبراء الألمان لدفعهم إلى مغادرة مصر والتوقف عن المشاركة فى المشروع الصاروخى، لكنهم أصروا على الاستمرار فى المهمة التى أوكلت إليهم.
بعد الحادثة المروعة فرضت إجراءات أمنية مشددة لحماية الخبراء الألمان غير أن الاستخبارات الإسرائيلية تمكنت من فتح ثغرة فى الجدار الأمنى حيث وصل إلى علمها أنهم قد طلبوا كتبا علمية من برلين.
هكذا وصلت طرود تحمل مثل هذه الكتب.
رغم أن التعليمات الأمنية كانت تقضى أن تفتح أى طرود تصل من الخارج عن طريق خبراء مفرقعات إلا أنه قد جرى مخالفتها وحدث انفجار جديد خلف فزعا شديدا.
أكثر من ذلك فإن الاستخبارات الإسرائيلية، التى كانت تتبع حركة الخبراء الألمان فى مصر وخارجها بأقصى ما تستطيع، حاولت اغتيال كلاين نختر «المسئول عن توجيه الصواريخ فى ألمانيا».
لم تتورع عن أى عمل يروع، أو يوقف المشروع الصاروخى المصرى بما فى ذلك محاولة إغواء الخبراء الألمان برواتب أكبر فى أماكن أخرى.
إذا لم يكن المشروع المصرى يمثل تهديدا بالردع للطيران الإسرائيلى ونقلة نوعية محتملة فى مستويات التسليح العسكرى فلماذا لاحقت إسرائيل العلماء الألمان بالرسائل المفخخة ومحاولات الاغتيال والإغواء بالأموال لترك ذلك المشروع؟
السؤال معلق فى ذمة الوثائق التى يجب نشرها حتى توضع الحقائق فى حجمها ويمتنع فى الوقت نفسه أى استخفاف بما حققته مصر ولم يستكمل، أو أى سخرية من سعيها لاستكمال منظومة القوة.
هذه مسألة لا تتعلق بالماضى بقدر صلتها بالمستقبل.
القوة الصاروخية مسألة ردع.
أرجو ألا ننسى أن مصر دخلت هذا المجال بقدر ما تستطيع قبل غيرها، وتعاونت فى صناعة الطائرات مع الهند التى مضت فى طريقها إلى آخره وتمثل الآن نموذجا فريدا لدولة تصنع السلاح وتستورد ما ينقصها من القطبين الأمريكى والروسى على السواء.
لماذا توقفنا؟
هزيمة (١٩٦٧) داع أول بإلحاح الحاجة إلى استيراد السلاح لاسترداد الأرض، التى احتلت بقوته دون انتظار تجارب قد تطول.
وكان التخلص من الإرث الناصرى داعيا ثانيا، فقد التحقت الاستراتيجية المصرية بما تطلبه وتقرره واشنطن وفق مقولة الرئيس «أنور السادات»: «إن ٩٩٪ من أوراق اللعبة فى يد أمريكا».
إذا كان الأمر كذلك فإن المضى فى المشروع الصاروخى المصرى لا طائل منه.
فى عام (١٩٦٣) بدأت عمليات التجريب على إطلاق الصواريخ، وكان هناك تعجل فى أن تلحق احتفالات (٢٣) يوليو.
لم يكتب لتلك المحاولة النجاح وأصيب فيها خبير ألمانى دفعه حماسه للاقتراب أكثر من اللازم لمعرفة الأسباب التى أفضت إلى إخفاق التجربة.
استمرت المحاولات واحدة إثر أخرى لضبط التوجيه الصحيح للصاروخ، وهو من أهم مراحل تصنيعه.
بحسب تقديرات أمريكية تتضمنها وثائق فإن الصواريخ المصرية كانت سوف تكون جاهزة عام (١٩٧٠).
من أسوأ ما قيل بعد الهزيمة العسكرية فى يونيو (١٩٦٧) السخرية من المشروع الصاروخى المصرى دون أى التفات إلى جديته والحرب الإسرائيلية عليه.
لا أحد ــ تقريبا ــ يريد أن يتذكر قصة ضبط رجل «الموساد» «وولف جانج لوتز»، الألمانى الجنسية، الذى اتخذ من تربية الخيول ستارا لمهمته فى وقف تعاون الخبراء الألمان مع الصناعات العسكرية المصرية لإنتاج الطائرات والصواريخ البالستية.
كانت تلك حربا استخباراتية ضارية جرت خلالها ضربات متبادلة.
طرف يحاول أن يحمى مشروع بلاده وطرف آخر يريد أن يقوضه قبل أن يصل نهايته.
ولا أحد ــ تقريبا ــ يريد أن يقر ــ رغم الوثائق والشهادات ــ بأن أحد أهداف العدوان الإسرائيلى على مصر عام (١٩٦٧) إجهاض مشروعها الصاروخى البالستى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved