انقلابات فى الإقليم

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأحد 17 يوليه 2016 - 10:00 م بتوقيت القاهرة

قبل الانقلاب العسكرى بدت تركيا كأنها تنتظر مجهولا يداهمها، فالأزمات تتراكم والسياسات تتخبط والمجتمع مكشوف على احتمالات الانفجار.

لا يعنى فشل الانقلاب أن الأوضاع استقرت، فتركيا لن تعود كما كانت قبله.

بين أوضاع قديمة ثبت فشلها وأوضاع جديدة لم تتضح أبعادها تبدو تركيا كمن يقف على حبل مشدود فى لحظة عدم اتزان.

فى خطوة دراماتيكية متأخرة استبقت الأحداث العاصفة بساعات أبدى رئيس حكومتها «بن على يلدرم» استعداد بلاده لـ«تطبيع العلاقات مع سوريا» ومد الجسور مع مصر والالتفات إلى العراق طلبا للاستقرار الإقليمى.

كان ذلك إدراكا لخطورة تداعيات السياسات المتبعة على الأوضاع الداخلية، فالإرهاب يضرب بقسوة والمجتمع ينقسم بفداحة.

بعض عمليات الإرهاب تنتسب إلى‫ «‬داعش» التى استخدمها الرئيس التركى «رجب طيب أردوجان» بإمدادات السلاح والتدريب والتمويل فى الصراع السورى وفق شهادات دولية لا سبيل إلى أنكارها.

وبعض العمليات الأخرى تنتسب إلى «حزب العمال الكردستانى» على خلفية الصدام المفتوح مع الأقلية الكردية التى تمثل نسبة لا يستهان بها من السكان.

بكلام آخر فإن الانقلاب بالسياسة حاول أن يستبق الانقلاب بالسلاح.

فى الجو العام خشية متفاقمة من تأسيس دولة كردية على الحدود مع سوريا تندمج مع «كردستان العراق» وتسعى لضم بعض الأراضى التركية إليها.

السلطات التركية لم تخف انزعاجها من الغطاء الجوى الأمريكى لتقدم القوات الكردية أمام «داعش» فى«منبيج»، وأن تلك القوات على صلة تحالف مع النظام السورى.

كما أبدت انزعاجا أكبر من الغطاء الجوى الروسى لتقدم الجيش السورى وحلفائه فى معارك حلب، التى إن حسمت فإن تركيا سوف تدخل فى انكشاف استراتيجى خطير.

الأكراد لم يؤيدوا انقلاب الجيش، فالصدام معه طويل ومرير، ولا دافعوا عن «شرعية رجب طيب أردوجان» الذى ينكل بهم ولا اقتنعوا بأن «الديمقراطية» موضوع الصراع بين الطرفين المتنازعين.

كان مثيرا أن بعض الهتافات التى رددها أنصار «أردوجان» بعد فشل الانقلاب نالت من الأكراد بعنف، وذلك مشروع تصعيد لا احتواء فى بنية ديمقراطية تحافظ على وحدة الدولة وحقوق الأقليات فيها.

قبل الانقلاب العسكرى اندفعت تركيا فى توقيت متزامن إلى طى صفحة أزمتيها المتفاقمتين مع موسكو وتل أبيب فى محاولة لتطويق ما تراه أمامها من أخطار محدقة.

فى سياق طى الأزمة مع موسكو جرت تفاهمات بدأت تتسرب للإعلام بشأن تعديل الموقف التركى من الأزمة السورية ومستقبل «بشار الأسد».

يصعب القفز إلى سيناريو تحالف ثلاثى روسى تركى إسرائيلى على ما ذهبت بعض التوقعات، فطهران أهم من أنقرة بالحسابات الروسية.

بحسب إشارات أولية فإن تركيا لم تعد متمسكة بطلب إبعاد «الأسد» من أية مرحلة انتقالية مقبلة فى اقتراب واضح من الموقف السائد بصياغات مختلفة فى موسكو وواشنطن وباريس.

من المرجح أن تكون هناك اتصالات سرية بين أنقرة ودمشق برعاية روسية.

أول ضحايا أية تفاهمات مرجحة «الائتلاف الوطنى الحر» الذى يجد فى إسطنبول حاضنته وملاذه بالقرب من الحدود السورية، وقد بوغت بما ناقض تطمينات تلقاها من أنه لن يحدث أى تقارب مع نظام «الأسد».

قد لا يحدث التقارب فورا لكن المسار الرئيسى تحدد فى إطار مراجعة واسعة لمجمل العلاقات التركية فى الإقليم والباقى بعده تفاصيل.

بحسابات القوة على الأرض «الائتلاف» لا يمثل القوة الضاربة فى المعارضة المسلحة حيث تئول قيادتها العملية إلى «جبهة النصرة» و«أحرار الشام»، وهما تنظيمان مستبعدان من «صيغة جنيف» ومصنفان دوليا كـ«داعش» و«القاعدة».

على الأرجح لن يتخلى «أردوجان» عن دعمه للمعارضة السورية بحسبانها ورقة ضغط ترفع من سقف جوائزه فى نهاية المطاف لكنه لم يعد ممكنا التعويل عليها فى إنهاء النظام السورى.

هناك فارق بين أوراق الضغط التى تستخدم والأحلاف السياسية التى تجمعها رؤى مشتركة.

لا يجادل أحد الآن فى استحالة الحسم العسكرى للأزمة السورية والتفاهمات الدولية تكاد أن تستقر على توجهين رئيسيين.

الأول، عدم إمكانية استبعاد الرئيس السورى من أية مرحلة انتقالية، وأنه يتعين ترك مصيره للسوريين.

والثانى، التلازم بين الحرب على «داعش» والمسار السياسى الانتقالى على ما دعا أخيرا بوضوح المبعوث الأممى «ديمستورا».

اللهجة التركية الجديدة انعكاس مباشر للحقائق على الأرض، فإلى أى حد يستوعبها «أردوجان» وهو فى نشوة النصر والانتقام.

لقد أثبتت ردات الفعل الدولية الأولى على أنباء الانقلاب أن «أردوجان» بلا أصدقاء وأن النظرة العامة إليه أقرب إلى «العبء» من «الحليف».

الخطأ الأكبر الذى ينتظره أن يتصرف كـ«منتصر» عاد لينتقم من خصومه السياسيين، وبعض تصرفاته تومئ لانفجارات أخرى لن تتأخر مواقيتها.

إذلال الجيش على النحو الذى تكشفه الصور يقوض هيبته فى إقليمه أو أية أدوار تسند إليه فى المستقبل، كما يدفع قطاعات واسعة فيه لمحاولة الانتقام، وسوف يكون دمويا فى المرة المقبلة.

والصدام بين الجيش والأمن والاستخبارات لصالح الأخيرين نقطة تحول تذكى روح الانتقام، ولن يتأخر طويلا.

والأحزاب العلمانية والقومية التى رفضت الانقلاب بدافع سوء سجل الجيش التركى فى الحياة السياسية تسأل عما إذا كان «أردوجان» سيلتزم بالقواعد الديمقراطية أم أنه قد يتخذ الانقلاب ذريعة لتصفية خصومة فى الجيش والقضاء على ما بدأ فعلا.

هذه ليست «دولة مؤسسات» بقدر ما هى «دولة السلطان».

وقد بدأت الانتقادات فى الداخل والخارج على السواء تشكك فى نسبة تصرفات «أردوجان» إلى الديمقراطية أو دولة القانون.
رغم التوجه العام قبل الانقلاب العسكرى لفتح صفحة جديدة مع مصر إلا أن تصرفات «أردوجان» بعد استعادته السلطة لا تنبئ أن ذلك سوف يكون خيارا سهلا، فقد رفع علامة «رابعة» كأن الشأن المصرى هو جوهر الصراع التركى.
رغم تصرفاته الهوجاء فإن الجماعة قد تكون من ضحايا التغييرات الإجبارية وفق طلب الاستقرار فى تركيا الممزقة.
كلام «يلدرم» عن الاستقرار فى العراق وسوريا دعوة أخرى لفتح ملفات التفاهم مع إيران.
من غير المستبعد أن تدخل أنقرة تحالفا مع طهران تنتقل به من تفاهمات تجارية حيوية إلى التزامات استراتيجية متبادلة.
الأزمة السورية الميدان الأول لاختبار فرضية التحالف المحتمل والطرفان لهما مصالح أساسية فى منع بناء أى دولة كردية بالشمال السورى.
فإيران تنوء بمشاكل عويصة كمنطقة عازلة بين الدب الروسى والمياه الدافئة ولديها أقليات قوية بينها الأقلية الكردية.
بصورة أو أخرى فإن إيران سوف تواصل ضغطها على أنصارها فى الأزمة اليمنية حتى تواصل المناكفة الاستراتيجية للسعودية.
بكل السيناريوهات الأزمة السورية هى أزمة الإقليم المركزية.
كل الانقلابات الاستراتيجية المحتملة تتوقف على مسار تلك الأزمة وكل خرائط القوة والنفوذ والتقسيم المتصورة ترتبط بنتائجها.
أمام تلك الأوضاع الحرجة فكل شىء محتمل وكل انقلاب وارد، والانقلابات الاستراتيجية أخطر من العسكرية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved