عن زمن الحرب الأهلية العربية ــ الدولية

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الثلاثاء 17 يوليه 2018 - 9:20 م بتوقيت القاهرة

قبل أربع وأربعين سنة، وفى قلب الحرب الأهلية ــ العربية ــ الدولية فى لبنان، ابتكر الزميل الكبير غسان توينى رئيس تحرير جريدة «النهار» فى بيروت، تعبير «حرب الآخرين على أرضنا».
لم يكن التعبير «موضوعيا» أو «منصفا»، مع أن الشرق والغرب، العدو الإسرائيلى كما الأشقاء العرب، كانوا جميعا أطرافا فاعلة ومؤثرة فى تلك الحرب المدمرة التى نرى الآن «نسخا» منها، أعظم تدميرا للعمران وأكثر وحشية فى القتل، لا فرق بين الرجال والنساء، بين الأطفال والشيوخ، بين مدن التاريخ وإبداعات العقل الإنسانى فى عصر الظلمات، فى أكثر من بلد عربى، وإن ظل اليمن هو العنوان.
لكن لبنان، وفيه ومنه ومعه اللبنانيون بأكثريتهم الساحقة لم يكونوا خارج الحرب، ومجرد ضحايا لها، بل كانوا ضالعين فيها، توزعهم خلافاتهم العميقة المدعمة بالطائفية والمذهبية على جبهاتها المختلفة.
اليوم تكاد الحرب الأهلية العربية أن تكون شاملة: البعض يهرب منها إلى المشاركة فى تسعيرها فى بلاد غيره من الأشقاء، والبعض الآخر يتوقع أن تصله، ولو بعد حين، فتدمر عمرانه ودولته وترميه على قارعة التاريخ.
من المغرب إلى اليمن، مرورا بالجزائر وتونس وليبيا، فإلى سوريا والعراق وشبه الجزيرة العربية، ثمة مؤشرات وعلامات على خلل بنيوى فى علاقات الأنظمة بشعوبها يتيح للأجنبى (ما كنا نسميه: الاستعمار، ويسمى الآن الإمبريالية ــ الأمريكية المتحالفة مع العدو الإسرائيلى) أن يتدخل فى الشئون الداخلية ورعاية المعارضات الداخلية المختلفة وتغذيتها بالمال والسلاح والخبراء المدربين (على طريقة البلاك ووتر).
ومؤكد أن هذا التدخل الفاضح يفرض على المعارضة الشعبية الوطنية أن تعترض عليه، وترفضه قطعا، حتى ولو استفاد النظام المعنى والمتهم بالفساد، والتهمة صحيحة بحق، من هذا الرفض وحاول تدجين هذه المعارضة واستيعابها عبر تخويفها مما ترفضه.
ومع أن الكيانات السياسية العربية قد اصطنعت غالبا فى غيبة شعوبها، وأحيانا لاسترضاء أسر حاكمة أو لتأمين حدود إسرائيل حتى من قبل إقامتها بالقوة والتآمر وخيانات بعض القادة والأشراف والمناضلين ضد الاستعمار العثمانى.
مع أن هذه الكيانات قد استمدت شرعيتها من الخارج، ومن فوق رأس الإرادة الشعبية، إلا أن حماياتها الخارجية الدائمة والثابتة، وأن تبدل الحامى، قد كلفت الأمة وحدتها، وحتى تضامن دولها على الحد الأدنى من مصالحها.
فى أى حال فإن أنواعا من الحروب تشن على العديد من الدول العربية ثم تنسب إلى الخلافات بين مكونات شعبها، سواء العرقية منها أو الدينية أو المذهبية.
وفى زمن الحرب الأهلية فى لبنان، والتى كانت من طبيعة عربية ودولية وإن استفاد المخططون لها والمستفيدون منها، من «تركيبة» لبنان بطوائفه ومذاهبه العديدة، والتى تختزن ذكريات صراعات وحروب على السلطة، قبل استيلاد الكيان، ودائما بالاتكاء على الأجنبى، والصراعات بين السلطنة وأعدائها الذين كانوا يعدون أنفسهم لوراثتها، بعنوان بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية.
الطريف أنه فى حين أسبغت فرنسا رعايتها على لبنان، والمسيحيين فيه بعنوان الموارنة، وروسيا على الأرثوذكس، فإن بريطانيا قد تعهدت رعاية الدروز.. وترك المسلمين، عموما، قيد الامتحان، فمن ألتحق بالمستعمرين الجدد تم قبوله، ومن أصر على مقاومة الأجنبى بوصفه مستعمرا جديدا سيحل محل مستعمر يعيش آخر أيامه ومصيره السقوط قبل الرحيل ومعه، ترك مصيره للريح.. وتطور الأوضاع!
أما فى الحرب الأهلية التى استشهد بها الأستاذ غسان توينى (1975 ــ 1990 عمليا) فإن دولا عربية عديدة قد تورطت فيها، بإعلان مسبق أو بتدخل مباشر، لاحقا لأسباب تتصل بالخصومات والصراع على النفوذ.
كانت مصر غائبة، معطلة الدور بعد معاهدة كامب ديفيد، فتكابر الصغير، وتعاظم كل المستفيدين من هذا الغياب.. وهكذا فقد كان لكل دولة عربية، تقريبا، جبهة أو حصة أو طرف موال فى هذه الحرب التى تم تعريبها ثم تدويلها، خصوصا وأن العدو الإسرائيلى كان له دوره فيها، ثم تجسد هذا الدور على الأرض بالاجتياح العسكرى للبنان أوائل يونيه 1982... تمهيدا لأن تستدعى قوات تدخل دولى تفصل بين «قوات الردع العربية» ــ التى باتت الآن سورية بالكامل ــ وبين قوات الاحتلال الإسرائيلى، ثم بين أطراف الصراع المحلى متعدد الولاءات (الحركة الوطنية ــ وبعضها عند القيادة الفلسطينية ــ ياسر عرفات) وبعضها الآخر عند صدام حسين (حزب البعث جناح العراق وبعض القوى المسيحية التى كانت تعترض على التدخل السورى، وتقاتله بقيادة بشير الجميل).. قبل أن تنجح الوساطات العربية والدولية فى إقناع «الأطراف الفاعلة» بضرورة استرضائه بالرئاسة الأولى لإبعاده عن العدو الإسرائيلى، وقد تمت هذه الصفقة خلال شهر رمضان المبارك الذى لم يكن «الشيخ بشير» يعرف أنه شهر الصوم عند المسلمين.
* * *
كانت دول الخليج، آنذاك، بعنوان الكويت تقوم بدور الوسيط.. فلما نزلت القوات الدولية تحت الرعاية الأمريكية فى بيروت وضواحيها، صار طبيعيا أن تتقدم السعودية لترعى الحل بمشاركة سوريا وفى ظل الرضا الأمريكى (والإسرائيلى ضمنًا).
بعد ذلك، ستدخل إيران الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخمينى على الخط، وتسعى إلى علاقة وطيدة مع سوريا، ومع بعض القوى السياسية والجمهور الشيعى فى لبنان.. ثم أن ترعى الحركة الوطنية لمقاومة الاحتلال الإسرائيلى، والتى كانت تضم بداية الحزب الشيوعى والقوميين السوريين، فترعى التجربة الوليدة للمقاومة الإسلامية للاحتلال الإسرائيلى للبنان، والتى ستعرف فى ما بعد بـ «حزب الله».
وبعد ثمانى عشرة سنة من الاجتياح الإسرائيلى للبنان نجحت مقاومة «حزب الله» فى إجبار العدو على الانسحاب مدحورا، وعاش اللبنانيون أفراح يوم عيد نادر، فى ظل الهزيمة التى ما زال العرب يعيشون مراراتها نتيجة العجز عن مواجهة العدو الإسرائيلى.
لكن دول الخليج، اليوم، غير دول الخليج بالأمس: لقد انفصلت هذه الدول العربية الست عن سائر «الأشقاء العرب»، فأنشأت «مجلس التعاون الخليجى» الذى غدا بديلا من جامعة الدول العربية وسائر مؤسسات إعلان نوايا الوحدة والاتحاد أو التعاون المفتوح فى انتظار الوحدة التى كانت تمثلها تلك الجامعة العربية فى القاهرة، التى دار بها الزمان دورة كاملة حتى تمكنت دولة بحجم قطر أن تتحكم بقرارها «فتطرد» منها دولة مؤسسة لهذه الجامعة، هى سوريا.
لقد غامر صدام حسين على امتداد السبعينيات والثمانينيات فحارب إيران الثورة، ثم غزا الكويت فى بداية التسعينيات، مما وفر المناخ المؤاتى لشن الحرب الأمريكية المدمرة عليه، بمشاركة ما سمى «التحالف العربى».
وها هو العراق بعد خمس عشرة سنة من الاحتلال الأمريكى يفتقد الآن وحدته الشعبية، ويحاول ترميم دولته التى شققتها المذهبية، خصوصا بعدما انتسب الكثير من ضباط صدام حسين وعسكرهم إلى تنظيم «داعش» الإرهابى بذريعة الانتقام لأهل السنة بإعادة الخلافة إلى الحياة..
أما سوريا فإن الحرب فيها وعليها تجاوزت عامها السابع وقد خلط نظامها بين العصابات الإرهابية والمعارضة السلمية، فتفجرت أنحاء البلاد متيحة للدول جميعا أن تتدخل فيها: الخليج بعنوان قطر ثم السعودية وتركيا والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا التى بادرت إلى إرسال «قوات رمزية» لكى تدخل طرفا فى التسوية.
أما فى المغرب العربى فقد سقطت دولة ليبيا القذافى فى هوة الحرب الأهلية والانقسامات القبلية والجهوية، ودخل الغرب (أمريكا وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا.. فى حين حاولت مصر حفظ ما تبقى).
وها هى الجزائر تخاف من غدها فى ظل أزمة اقتصادية دفعت وتدفع بملايين من أبنائها للسفر إلى البلاد التى استعمرتهم لمائة وخمسين عاما، وكلف إجلاؤها أكثر من مليون ونصف المليون شهيد.
* * *
وتسأل عن فلسطين، بينما قادة العرب يزاحمون رئيس الحكومة الإسرائيلية عند أبواب بوتين فى موسكو، فى طريق العودة من واشنطن، ولا أحد يطلب فلسطين، بل إن أكثرهم بمن فيهم أهل النفط والغاز يريدون توطيد العلاقات الاقتصادية والتجارية (النفط والغاز ومعهما السلاح).
أما فلسطين فيمكنها أن تنتظر حتى تذوب أو تضمحل أو تقزم، بجهد العدو الإسرائيلى وتغاضى العرب، إلى «ولاية ذات استقلال ذاتى داخل الكيان الذى يتسع ليهود العالم أجمع».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved